للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْآيَةُ عَامَّةٌ. الثَّالِثُ: أَرَادَ به الملائكة وعزيزاً وَالْمَسِيحَ، أَيْ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَلَدِ أَنَّهُمْ قَانِتُونَ لَهُ،

يُحْكَى عَنْ علي بن أبي طالب قَالَ لِبَعْضِ النَّصَارَى: لَوْلَا تَمَرُّدُ عِيسَى عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَصِرْتُ عَلَى دِينِهِ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَى/ عِيسَى مَعَ جِدِّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ عِيسَى إِلَهًا فَالْإِلَهُ كَيْفَ يَعْبُدُ غَيْرَهُ إِنَّمَا الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ الْعِبَادَةُ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَانَ الْقُنُوتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الدَّوَامِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ دَوَامَ الْمُمْكِنَاتِ وَبَقَاءَهَا بِهِ سُبْحَانَهُ وَلِأَجْلِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَالَمَ حَالَ بَقَائِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَنْقَطِعَ حَاجَتُهُ عَنِ الْمُؤَثِّرِ لَا محال حُدُوثِهِ وَلَا حَالَ بَقَائِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ كيف جاء بما الَّذِي لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ مَعَ قَوْلِهِ: قانِتُونَ جوابه: كأنه جاء بما دُونَ مَنْ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبَدِيعُ وَالْمُبْدِعُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ مِثْلُ أَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَحَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي بَدِيعٍ مُبَالَغَةً لِلْعُدُولِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْإِبْدَاعَ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ: سَامِعٍ وَسَمِيعٍ وَقَدْ يَجِيءُ بَدِيعٌ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، وَالْإِبْدَاعُ الْإِنْشَاءُ وَنَقِيضُ الْإِبْدَاعِ الِاخْتِرَاعُ عَلَى مِثَالٍ وَلِهَذَا السَّبَبِ فإن الناس يسمعون مَنْ قَالَ أَوْ عَمِلَ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مُبْتَدِعًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَبَيَّنَ بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض [في قوله تعالى وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يُبْدِعُ الشَّيْءَ فَقَالَ: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: الْقَضَاءُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ سُمِّيَ بِهِ وَلِهَذَا جُمِعَ عَلَى أَقْضِيَةٍ كَغِطَاءٍ وَأَغْطِيَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُ الْقَضِيَّةُ، وَجَمْعُهَا الْقَضَايَا وَوَزْنُهُ فَعَالٌ مِنْ تَرْكِيبِ «ق ض ي» وَأَصْلُهُ «قَضَايٌ» إِلَّا أَنَّ الْيَاءَ لَمَّا وَقَعَتْ طَرَفًا بَعْدَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ اعْتَلَّتْ فَقُلِبَتْ أَلْفًا، ثُمَّ لَمَّا لَاقَتْ هِيَ أَلِفَ فَعَالٍ قُلِبَتْ هَمْزَةً لِامْتِنَاعِ الْتِقَاءِ الْأَلِفَيْنِ لَفْظًا، وَمِنْ نَظَائِرِهِ الْمَضَاءُ وَالْأَتَاءُ، مِنْ مَضَيْتُ وَأَتَيْتُ وَالسِّقَاءُ، وَالشِّفَاءُ، مِنْ سَقَيْتُ وَشَفَيْتُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَصَالَةِ الْيَاءِ دُونَ الْهَمْزَةِ ثَبَاتُهَا فِي أَكْثَرِ تَصَرُّفَاتِ الْكَلِمَةِ تَقُولُ: قَضَيْتُ وَقَضَيْنَا، وَقَضَيْتَ إِلَى قَضَيْتُنَّ، وَقَضَيَا وَقَضَيْنَ، وَهُمَا يَقْضِيَانِ، وَهِيَ وَأَنْتَ تَقْضِي، وَالْمَرْأَتَانِ وَأَنْتُمَا تَقْضِيَانِ، وَهُنَّ يَقْضِينَ، وَأَمَّا أَنْتِ تَقْضِينَ، فَالْيَاءُ فِيهِ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبَةِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَالْأَصْلُ الَّذِي يَدُلُّ تَرْكِيبُهُ عَلَيْهِ هُوَ مَعْنَى الْقَطْعِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ، قَضَى الْقَاضِي لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا قَضَاءً إِذَا حَكَمَ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ لِلدَّعْوَى، وَلِهَذَا قِيلَ: حَاكِمٌ فَيْصَلٌ إِذَا كَانَ قَاطِعًا لِلْخُصُومَاتِ وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَاضِي مَعْنَاهُ الْقَاطِعُ لِلْأُمُورِ الْمُحْكِمُ لَهَا، وَقَوْلُهُمْ انْقَضَى الشَّيْءُ إِذَا تَمَّ وَانْقَطَعَ، وَقَوْلُهُمْ: قَضَى حَاجَتَهُ، مَعْنَاهُ قَطَعَهَا عَنِ الْمُحْتَاجِ وَدَفَعَهَا عَنْهُ وَقَضَى دَيْنَهُ إِذَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قَطَعَ التَّقَاضِيَ وَالِاقْتِضَاءَ عَنْ نَفْسِهِ أَوِ انْقَطَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، / وَقَوْلُهُمْ: قَضَى الْأَمْرَ، إِذَا أَتَمَّهُ وَأَحْكَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فُصِّلَتْ: ١٢] وَهُوَ مِنْ هَذَا لِأَنَّ فِي إِتْمَامِ الْعَمَلِ قَطْعًا لَهُ وَفَرَاغًا مِنْهُ، وَمِنْهُ: