للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دِرْعٌ قَضَّاءُ مِنْ قَضَاهَا إِذَا أَحْكَمَهَا وَأَتَمَّ صُنْعَهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ قَضَى الْمَرِيضُ وَقَضَى نَحْبَهُ إِذَا مَاتَ، وَقَضَى عَلَيْهِ:

قَتَلَهُ فَمَجَازٌ مِمَّا ذُكِرَ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا تَقَضِّي الْبَازِي فَلَيْسَ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَمِمَّا يُعَضِّدُ ذَلِكَ دَلَالَةُ مَا اسْتُعْمِلَ مِنْ تَقْلِيبِ تَرْتِيبِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَيْضُ وَالضِّيقُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: قَاضَهُ فَانْقَاضَ، أَيْ شَقَّهُ فَانْشَقَّ، وَمِنْهُ قَيْضُ الْبَيْضِ لِمَا انْفَلَقَ مِنْ قِشْرِهِ الْأَعْلَى، وَانْقَاضَّ الْحَائِطُ إِذَا انْهَدَمَ مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ، وَالْقَطْعُ وَالشَّقُّ وَالْفَلْقُ وَالْهَدْمُ مُتَقَارِبَةٌ، وَأَمَّا الضِّيقُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ فَدَلَالَتُهُ عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ بَيِّنَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قُطِعَ ضَاقَ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، فَأَوَّلُهَا: قَضَبَهُ إِذَا قَطَعَهُ، وَمِنْهُ الْقَضْبَةُ الْمُرَطَّبَةُ، لِأَنَّهَا تُقْضَبُ أَيْ تُقْطَعُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْقَضِيبُ: الْغُصْنُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْمِقْضَبُ مَا يُقْضَبُ بِهِ كَالْمِنْجَلِ. وَثَانِيهَا: الْقَضْمُ وَهُوَ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا لِلْمَأْكُولِ، وَسَيْفٌ قَضِيمٌ: فِي طَرَفِهِ تَكَسُّرٌ وَتَفَلُّلٌ. وَثَالِثُهَا: الْقَضَفُ وَهُوَ الدِّقَّةُ، يُقَالُ رَجُلٌ قَضِيفٌ، أَيْ: نَحِيفٌ، لِأَنَّ الْقِلَّةَ مِنْ مُسَبَّبَاتِ الْقَطْعِ. وَرَابِعُهَا: الْقُضْأَةُ فُعْلَةٌ وَهِيَ الْفَسَادُ، يُقَالُ قَضِئَتِ القربة إذا عفيت وَفَسَدَتْ وَفِي حَسَبِهِ قُضْأَةٌ أَيْ عَيْبٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ أَوْ مُسَبَّبَاتِهِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي مَفْهُومِهِ الْأَصْلِيِّ بِحَسْبِ اللُّغَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَحَامِلِ لَفْظِ الْقَضَاءِ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْخَلْقِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ يَعْنِي خَلَقَهُنَّ. وَثَانِيهَا: بِمَعْنَى الْأَمْرِ قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] . وَثَالِثُهَا: بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْحَاكِمِ: الْقَاضِي. وَرَابِعُهَا: بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، قَالَ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: ٤] أَيْ أَخْبَرْنَاهُمْ، وهذا يأتي مقروناً بإلى.

وَخَامِسُهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ مِنَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الْأَحْقَافِ: ٢٩] يَعْنِي لَمَّا فُرِغَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هُودٍ: ٤٤] يَعْنِي فُرِغَ مِنْ إِهْلَاكِ الْكُفَّارِ وَقَالَ: لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الْحَجِّ: ٢٩] بِمَعْنَى لِيَفْرُغُوا مِنْهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِذا قَضى أَمْراً [آلِ عِمْرَانَ: ٤٧] قِيلَ: إِذَا خَلَقَ شَيْئًا، وَقِيلَ: حَكَمَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا، وَقِيلَ: أَحْكَمَ أَمْرًا، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَهَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ وَالشَّأْنِ الْحَقِّ؟ نعم وهو المراد بالأمر هاهنا، وَبَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٤٧] بِالنَّصْبِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ:

فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ: كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩، ٦٠] وَفِي الْأَنْعَامِ: كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [الْأَنْعَامِ: ٧٣] فَإِنَّهُ رَفَعَهُمَا، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ بِالنَّصْبِ فِي النَّحْلِ وَيس وَبِالرَّفْعِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ هُوَ بَعِيدٌ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ فَهُوَ يَكُونُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٧] هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَحِينَئِذٍ يَتَكَوَّنُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَإِنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ فَيَكُونُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَالْقِسْمَانِ فَاسِدَانِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِتَوَقُّفِ حُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْ إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ كُنْ لَفْظَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْكَافِ عَلَى النُّونِ، فَالنُّونُ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْكَافِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، وَالْكَافُ لِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى