تَحِلَّ لِأَحَدٍ بِأَنْ يَنْصُبَ الْحَرْبَ عَلَيْهَا وَأَنَّ ذَلِكَ أُحِلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ مِنَ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْإِمَامَ يَأْمُرُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى خُرُوجِهِ مِنَ الْحَرَمِ، فَإِذَا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحِلِّ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قُتِلَ فِي الْحَرَمِ جَازَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَاتَلَ فِي الْحَرَمِ جَازَ قَتْلُهُ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام أمر عند ما قُتِلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْأَفْلَحِ وَخُبَيْبٌ بِقَتْلِ أَبِي سُفْيَانَ فِي دَارِهِ بِمَكَّةَ غِيلَةً إِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَهَذَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ مَكَّةُ فِيهِ مُحَرَّمَةً فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا إِنَّمَا تُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُنْصَبَ الْحَرْبُ عَلَيْهَا كَمَا يُنْصَبُ عَلَى غَيْرِهَا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأَمْناً لَيْسَ فيه بيان أنه جعله أمناً في ماذا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنَ الْقَحْطِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنْ نَصْبِ الْحُرُوبِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَلَيْسَ اللَّفْظُ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْنِ مِنَ الْقَحْطِ وَالْآفَاتِ أَوْلَى لِأَنَّا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا نَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ لَفْظِ الْخَبَرِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ وَفِي سَائِرِ الْوُجُوهِ نَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وحمزة وعاصم والكسائي: وَاتَّخِذُوا بكسر الْخَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ.
أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَقَوْلُهُ: وَاتَّخِذُوا عَطْفٌ عَلَى مَاذَا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ:
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ١٢٢] ، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. الثَّانِي: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ابْتَلَاهُ بِكَلِمَاتٍ وَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ لَهُ جَزَاءً لِمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَالَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِهَذَا وَلَدَهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَضْمَرَ قَوْلَهُ وَقَالَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: ١٧١] الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، وَهُوَ كَلَامٌ اعْتَرَضَ فِي خِلَالِ ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا أَنْتُمْ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَالتَّقْدِيرُ أَنَّا لَمَّا شَرَّفْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ بِكَوْنِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا فَاتَّخِذُوهُ أَنْتُمْ قِبْلَةً لِأَنْفُسِكُمْ، وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ قَدْ يُذْكَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْوَضْعِ وَإِنْ كَانَتِ الْفَاءُ أَوْضَحَ، أَمَّا مَنْ قَرَأَ: وَاتَّخَذُوا بِالْفَتْحِ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِهِ مُصَلًّى، فَيَكُونُ هَذَا عَطْفًا عَلَى: جَعَلْنَا الْبَيْتَ وَاتَّخَذُوهُ مُصَلًّى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ وَإِذِ اتَّخَذُوهُ مُصَلًّى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا أَقْوَالًا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ مَوْضِعُ الْحَجَرِ قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَتْ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ وَضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ فَوَضَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ فَغَسَلَتْ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ وَقَدْ غَاصَتْ رِجْلُهُ فِي الْحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى فَغَاصَتْ رِجْلُهُ أَيْضًا فِيهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute