للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَنَسٍ. وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْنِي الْبَيْتَ وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْبَقَرَةِ: ١٢٧] فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ وَضَعُفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ وَضْعِ الْحِجَارَةِ قَامَ عَلَى حَجَرٍ وَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. الرَّابِعُ: الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاتَّفَقَ المحققون على أن القول الأولى أَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: مَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أَتَى الْمَقَامَ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فَقِرَاءَةُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ظَاهِرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الِاسْمَ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِلًا لَوْ سَأَلَ الْمَكِّيَّ بِمَكَّةَ عَنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُجِبْهُ وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ/. وَثَالِثُهَا: مَا

رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِالْمَقَامِ وَمَعَهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ قَالَ: لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهِمْ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ.

وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَجَرَ صَارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فِي رُطُوبَةِ الطِّينِ حَتَّى غَاصَتْ فِيهِ رِجْلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِإِبْرَاهِيمَ أَوْلَى مِنِ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ بِهِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ أَوْلَى.

وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ تَعَلُّقٌ بِالْحَرَمِ وَلَا بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ إِلَّا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ هَذَا الْمَوْضِعَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ مَوْضِعُ قِيَامِهِ، وَثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَامَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ عِنْدَ الْمُغْتَسَلِ وَلَمْ يَثْبُتْ قِيَامُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ، أَعْنِي: مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْحَجَرِ يَكُونُ أَوْلَى قَالَ الْقَفَّالُ: وَمَنْ فَسَّرَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَجَرِ خَرَّجَ قَوْلَهُ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عَلَى مَجَازِ قَوْلِ الرَّجُلِ: اتَّخَذْتُ مِنْ فُلَانٍ صَدِيقًا وَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ أَخًا صَالِحًا وَوَهَبَ اللَّهُ لِي مِنْكَ وَلِيًّا مُشْفِقًا وَإِنَّمَا تَدْخُلُ «مِنْ» لِبَيَانِ الْمُتَّخَذِ الْمَوْصُوفِ وَتُمَيِّزُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: مُصَلًّى وُجُوهًا. أَحَدُهَا: الْمُصَلَّى الْمُدَّعَى فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي هي الدعاء، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الْأَحْزَابِ: ٥٦] وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَتِمَّ لَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ كُلَّ الْحَرَمِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهِ قِبْلَةً. وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إِذَا أُطْلِقَ يُعْقَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْمَفْعُولَةُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مُصَلَّى الْمِصْرِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُصَلَّى أَمَامَكَ يَعْنِي بِهِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ بَعْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ لِسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي فَسَّرُوا الْآيَةَ بها وهاهنا بَحْثٌ فِقْهِيٌّ وَهُوَ أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا فَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: سُنَّةٌ

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا، قال: لا إلا أن تطوع وَإِنْ كَانَ الطَّوَافُ نَفْلًا مِثْلَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَرَكْعَتَاهُ سُنَّةٌ

وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.