للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يتحوشون الرَّئِيسَ فَهُوَ فِي وَسَطِهِمْ وَهُمْ حَوْلَهُ فَقِيلَ وَسَطٌ لِهَذَا الْمَعْنَى.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا وَسَطًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَوَسِّطُونَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفَرِّطِ وَالْمُفْرِطِ وَالْغَالِي وَالْمُقَصِّرِ فِي الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَغْلُوا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فجعلوا ابناً وإلهاً ولأقصروا كَتَقْصِيرِ الْيَهُودِ فِي قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبْدِيلِ الْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَصَّرُوا فِيهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخَيْرِيَّتَهُمْ بِجَعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ فِعْلُ الْأَلْطَافِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى فَعَلَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ اخْتَارُوا عِنْدَهَا الصَّوَابَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، لَكِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْبَاهِرَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مَعَنَا، أَقْصَى مَا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ التَّمَسُّكُ بِفَصْلِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا كَثِيرَةً أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مُنْتَقَضَةٌ عَلَى أُصُولِهِمْ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَةِ الدَّاعِي، وَالْكَلَامُ الْمَنْقُوضُ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: ١٤٢] وَقَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ الْبَعْضَ بِالْهِدَايَةِ دُونَ الْبَعْضِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى ذَلِكَ لِتَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ الْأُخْرَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَا فِي مَقْدُورِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَلْطَافِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَقَدْ فَعَلَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَائِدَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِعْلُ اللُّطْفِ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَالُوا:

أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَدَالَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ فَلَوْ أَقَامُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَمَا اتَّصَفُوا بِالْخَيْرِيَّةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً، فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ يَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمْ بِهَا وَخِلَافُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَعْضِ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ، سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَتْرُوكَةَ الظاهرة لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ وَالْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مُعَارَضَةٌ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ عَدَالَةَ الرَّجُلِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ جَعَلَهُمْ وَسَطًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَسَطًا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُمْ وَسَطًا غَيْرَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا وَإِلَّا لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بِقَادِرَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَسَطَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَجَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعَدَالَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، سَلَّمْنَا اتِّصَافَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ وَلَكِنْ لِمَ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ هَذَا الْوَصْفِ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَطْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَمَلَ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّهُ مِنَ الصَّغَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي خَيْرِيَّتِهِمْ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَفِعْلُ الصَّغَائِرِ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، سَلَّمْنَا اجْتِنَابَهُمْ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْآخِرَةِ فَيَلْزَمُ وُجُوبُ تَحَقُّقِ عَدَالَتِهِمْ هُنَاكَ لِأَنَّ عَدَالَةَ