للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشُّهُودِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَةَ الْأَدَاءِ لَا حَالَةَ التَّحَمُّلِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ تَصِيرُ مَعْصُومَةً فِي الْآخِرَةِ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ؟ سَلَّمْنَا وُجُوبَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مُحَالٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي عَدَالَةَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا تَقْتَضِي عَدَالَةَ غَيْرِهِمْ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أُولَئِكَ حَقٌّ فَيَجِبُ أَنْ لَا نَتَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا حُصُولَ قَوْلِ كُلِّ أُولَئِكَ فِيهِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِأَعْيَانِهِمْ وَعَلِمْنَا بَقَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى مَا بَعْدَ وَفَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمْنَا حُصُولَ أَقْوَالِهِمْ بِأَسْرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَالْمُتَعَذَّرِ امْتَنَعَ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ غَيْرِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ عَدْلًا فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، بَلْ إِذَا اخْتَلَفُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ يَفْعَلُونَ الْقَبِيحَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَهُمْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْناكُمْ خِطَابٌ لِمَجْمُوعِهِمْ لَا لِكُلِّ واحد منهم وحده، على أن وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدْلًا لَكِنَّا نَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الباقي وهذا المعنى مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّهُمْ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِذَا كُنَّا لَا نَعْلَمُ بِأَعْيَانِهِمُ افْتَقَرْنَا إِلَى اجْتِمَاعِ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، لِكَيْ يَدْخُلَ الْمُعْتَبَرُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ، مِثَالُهُ: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا قَالَ إِنَّ وَاحِدًا/ مِنْ أَوْلَادِ فُلَانٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ وَوَجَدْنَا أَوْلَادَهُ مُجْتَمِعِينَ عَلَى رَأْيٍ عَلِمْنَاهُ حَقًّا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْمُحِقُّ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعُوا سِوَى الْوَاحِدِ عَلَى رَأْيٍ لَمْ نَحْكُمْ بِكَوْنِهِ حَقًّا لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ الَّذِي خَالَفَ، وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّا لَوْ مَيَّزَنَا فِي الْأُمَّةِ مَنْ كَانَ مُصِيبًا عَمَّنْ كَانَ مُخْطِئًا كَانَتِ الْحُجَّةُ قَائِمَةً فِي قَوْلِ الْمُصِيبِ وَلَمْ نَعْتَبِرِ الْبَتَّةَ بِقَوْلِ الْمُخْطِئِ قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِمْ وَسَطًا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ عَدَالَتِهِمْ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى قُلْنَا: هَذَا مَذْهَبُنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، قَوْلُهُ: لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَخَيْرِيَّتِهِمْ يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ عَنِ الصَّغَائِرِ؟ قُلْنَا: خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ، وَالْخَبَرُ الصِّدْقُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَفِعْلُ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِخَيْرٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّخْصِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُهُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَيُقَالُ: الْخَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ الْبَعْضِ أَوْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَمَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ الْبَعْضِ، يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَنْ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ لَا يَقْتَضِي إِخْبَارَهُ تَعَالَى عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْكَبَائِرِ فَضْلًا عَنِ الصَّغَائِرِ، وَكُنَّا قَدْ نَصَرْنَا هَذِهِ الدَّلَالَةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَيْهَا، أَمَّا السُّؤَالُ الْآخَرُ فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ خطاب