للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَحَبَّ» .

فَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِذَلِكَ،

وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ، وَقَدْ نَحَلَتْ أَبْدَانُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِكُمْ إِلَى مَا أَرَى؟ فَقَالُوا: الْخَوْفُ مِنَ النَّارِ، فَقَالَ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْخَائِفَ، ثُمَّ تَرَكَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ، فَإِذَا هُمْ أَشَدُّ نُحُولًا وَتَغَيُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ؟ قَالُوا الشَّوْقُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكُمْ مَا تَرْجُونَ ثُمَّ تَرَكَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ فَإِذَا هُمْ أَشَدُّ نُحُولًا وَتَغَيُّرًا، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَرَايَا مِنَ النُّورِ، فَقَالَ: كَيْفَ بَلَغْتُمْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، قَالُوا: بِحُبِّ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْتُمُ الْمُقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ،

وَعِنْدَ السُّدِّيِّ قَالَ: تُدْعَى الْأُمَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْبِيَائِهَا، فَيُقَالُ: يَا أُمَّةَ مُوسَى، وَيَا أُمَّةَ عِيسَى، وَيَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، غَيْرَ الْمُحِبِّينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُنَادَوْنَ: يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ،

وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: «عَبْدِي أَنَا وَحَقِّكَ لَكَ مُحِبٌّ فَبِحَقِّي عَلَيْكَ كُنْ لِي مُحِبًّا» .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ وَإِنِ اتَّفَقُوا فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْمَحَبَّةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا إِلَّا بِالْجَائِزَاتِ، فَيَسْتَحِيلُ/ تَعَلُّقُ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: نُحِبُّ اللَّهَ، فَمَعْنَاهُ نُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَخِدْمَتَهُ، أَوْ نُحِبُّ ثَوَابَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَدْ قَالُوا: الْعَبْدُ قَدْ يُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى لِذَاتِهِ، وَأَمَّا حُبُّ خِدْمَتِهِ أَوْ حُبُّ ثَوَابِهِ فَدَرَجَةٌ نَازِلَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْكَمَالَ أَيْضًا مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، أَمَّا اللَّذَّةُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ لَنَا: لِمَ تَكْتَسِبُونَ؟ قُلْنَا: لِنَجِدَ الْمَالَ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ تَطْلُبُونَ الْمَالَ؟ قُلْنَا: لِنَجِدَ بِهِ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَ تطلبون المأكول والمشروب؟ قلنا: لتحصيل اللذة ويندفع الألم، فإن قيل لنا: ولما تَطْلُبُونَ اللَّذَّةَ وَتَكْرَهُونَ الْأَلَمَ؟ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ إِنَّمَا كان مطلوبا أجل شيء آخر، لزم التَّسَلْسُلُ، وَإِمَّا الدَّوْرُ، وَهُمَا مُحَالَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَا يَكُونُ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّذَّةَ مَطْلُوبَةُ الْحُصُولِ لِذَاتِهَا، وَالْأَلَمَ مَطْلُوبُ الدَّفْعِ لِذَاتِهِ، لَا لِسَبَبٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْكَمَالُ فَلِأَنَّا نُحِبُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَإِذَا سَمِعْنَا حِكَايَةَ بَعْضِ الشُّجْعَانِ مِثْلَ رُسْتُمَ، وَإِسْفِنْدِيَارَ، وَاطَّلَعْنَا عَلَى كَيْفِيَّةِ شَجَاعَتِهِمْ مَالَتْ قُلُوبُنَا إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ الْعَظِيمِ فِي تَقْرِيرِ تَعْظِيمِهِ، وَقَدْ يَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَرَةِ بِالرُّوحِ، وَكَوْنُ اللَّذَّةِ مَحْبُوبَةً لِذَاتِهَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْكَمَالِ محبوبا لذاته، إذا أثبت هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِينَ حَمَلُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ، أَوْ عَلَى مَحَبَّةِ ثَوَابِهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، أَمَّا الْعَارِفُونَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَحْبُوبٌ فِي ذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ انْكَشَفَ لَهُمْ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْمَلَ الْكَامِلِينَ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ لِوُجُوبِ وُجُودِهِ: غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَكَمَالُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْمَلُ الْكَامِلِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَإِذَا كُنَّا نُحِبُّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ لِكَمَالِهِ فِي عِلْمِهِ وَالرَّجُلَ الشُّجَاعَ لِكَمَالِهِ فِي شَجَاعَتِهِ وَالرَّجُلَ الزَّاهِدَ لِبَرَاءَتِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَفْعَالِ، فَكَيْفَ لَا نُحِبُّ اللَّهَ وَجَمِيعُ الْعُلُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمله كَالْعَدَمِ، وَجَمِيعُ الْقُدَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَالْعَدَمِ وجميع ما للخلق من البرءاة عَنِ النَّقَائِصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَحْبُوبَ الْحَقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مَحْبُوبٌ فِي ذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ، سَوَاءٌ أَحَبَّهُ غَيْرُهُ أَوْ مَا أَحَبَّهُ غَيْرُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَمَّا وَقَفْتَ عَلَى النُّكْتَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَنَقُولُ: الْعَبْدُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً، بَلْ مَا لَمْ يَنْظُرْ