فِي مَمْلُوكَاتِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ، فَلَا جَرَمَ كُلُّ مَنْ كَانَ اطِّلَاعُهُ عَلَى دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَتَمَّ، كَانَ عِلْمُهُ بِكَمَالِهِ أَتَمَّ، فَكَانَ لَهُ حُبُّهُ أَتَمَّ، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ وُقُوفِ الْعَبْدِ عَلَى دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لِجَلَالِ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ تَحْدُثُ هُنَاكَ حَالَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَثُرَتْ مُطَالَعَتُهُ لِدَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَثُرَ تَرَقِّيهِ فِي مَقَامِ مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَإِذَا كَثُرَ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، وَغَوْصِهِ فِيهِ عَلَى مِثَالِ الْقَطَرَاتِ النَّازِلَةِ مِنَ الْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فَإِنَّهَا مَعَ لَطَافَتِهَا تَثْقُبُ الْحِجَارَةَ الصَّلْدَةَ فَإِذَا غَاصَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي الْقَلْبِ تَكَيَّفَ/ الْقَلْبُ بِكَيْفِيَّتِهَا، وَاشْتَدَّ أُلْفُهُ بِهَا وَكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الألف أشد كان النَّفْرَةُ عَمَّا سِوَاهُ أَشَدَّ لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا عَدَاهُ يَشْغَلُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَالْمَانِعُ عَنْ حُضُورِ الْمَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ فَلَا تَزَالُ تَتَعَاقَبُ مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَنَفْرَتُهُ عَمَّا سِوَاهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَيَشْتَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْقَلْبُ نُفُورًا عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّفْرَةُ تُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ يُوجِبُ الْفَنَاءَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَلْبُ مُسْتَنِيرًا بِأَنْوَارِ الْقُدْسِ، مُسْتَضِيئًا بِأَضْوَاءِ عَالَمِ الْعِصْمَةِ فَانِيًا عَنِ الْحُظُوظِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَالَمِ الْحُدُوثِ وَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِثَالٌ إِلَّا الْعِشْقَ الشَّدِيدَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَإِنَّكَ تَرَى مِنَ التُّجَّارِ الْمَشْغُوفِينَ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مَنْ نَسِيَ جُوعَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي حِفْظِ الْمَالِ فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الْخَسِيسِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ عِنْدَ مُطَالَعَةِ جَلَالِ الْحَضْرَةِ الصمدية.
المسألة الثانية: في معنى الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، اعْلَمْ أَنَّ الشَّوْقَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا إِلَى شَيْءٍ أُدْرِكَ مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُدْرَكْ مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ أَصْلًا، فَلَا يُشْتَاقُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَرَ شَخْصًا وَلَمْ يَسْمَعْ وَصْفَهُ، لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَشْتَاقَ إِلَيْهِ وَلَوْ أَدْرَكَ كَمَالَهُ لَا يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّوْقَ إِلَى الْمَعْشُوقِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا رَآهُ ثُمَّ غَابَ عَنْهُ اشْتَاقَ إِلَى اسْتِكْمَالِ خَيَالِهِ بالرؤية. الثاني: أَنْ يَرَى وَجْهَ مَحْبُوبِهِ وَلَا يَرَى شَعْرَهُ، وَلَا سَائِرَ مَحَاسِنِهِ، فَيَشْتَاقُ إِلَى أَنْ يَنْكَشِفَ لَهُ مَا لَمْ يَرَهُ قَطُّ، وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا مُتَصَوَّرَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُمَا لَازِمَانِ بِالضَّرُورَةِ لِكُلِّ الْعَارِفِينَ، فَإِنَّ الَّذِي اتَّضَحَ لِلْعَارِفِينَ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، مَشُوبٌ بِشَوَائِبِ الْخَيَالَاتِ، فَإِنَّ الْخَيَالَاتِ لَا تَفْتُرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَنِ الْمُحَاكَاةِ وَالتَّمْثِيلَاتِ، وَهِيَ مُدْرَكَاتٌ لِلْمَعَارِفِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَا يَحْصُلُ تَمَامُ التَّجَلِّي إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الشَّوْقِ لَا مَحَالَةَ فِي الدُّنْيَا فَهَذَا أحد نوعي الشوق فبما اتَّضَحَ اتِّضَاحًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْإِلَهِيَّةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا يَنْكَشِفُ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضُهَا، وَتَبْقَى أُمُورٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا غَامِضَةً، فَإِذَا عَلِمَ الْعَارِفُ أَنَّ مَا غَابَ عَنْ عَقْلِهِ أَكْثَرُ مِمَّا حَضَرَ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَكُونُ مُشْتَاقًا إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَالشَّوْقُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَنْتَهِي فِي دَارِ الْآخِرَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى رُؤْيَةً وَلِقَاءً وَمُشَاهَدَةً، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الشَّوْقُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي فَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِهَايَةٌ، إِذْ نِهَايَتُهُ أَنْ يَنْكَشِفَ لِلْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ جَلَالُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ، وَحِكْمَتُهُ فِي أَفْعَالِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّوْقَ لَذِيذٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي التَّرَقِّي حَصَّلَ بِسَبَبِ تَعَاقُبِ الْوِجْدَانِ، وَالْحِرْمَانِ، وَالْوُصُولِ، وَالصَّدِّ آلَامًا مَخْلُوطَةً بِلَذَّاتٍ، وَاللَّذَّاتُ مَحْفُوفَةٌ بِالْحِرْمَانِ وَالْفِقْدَانِ، كَانَتْ أَقْوَى، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ اللَّذَّاتِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute