للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

للتعفن والفساد، فوجب أن يقتضي بِطَهَارَتِهَا كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَأَمَّا النَّفْعُ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ: فَفِي الْفُقَهَاءِ مَنْ مَنَعَ نَجَاسَتَهُ وَهُوَ الْأَسْلَمُ، ثُمَّ قَالُوا: هَبْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ بِالصُّوفِ وَالْعَظْمِ وَغَيْرِهِمَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تُنْتِجُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ فَكَانَ هَذَا الْجَانِبُ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمْ يُفْسِدِ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَانِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَاحْتَجُّوا لِلشَّافِعِيِّ، بِأَنَّهَا حَيَوَانَاتٌ فَإِذَا مَاتَتْ صَارَتْ مَيْتَةً فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا بِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَإِذَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهَا بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا، وَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الَّذِي/ وَقَعَتْ هِيَ فِيهِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا مَتَى كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ نَجِسَةً، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَجَاسَتِهَا تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ ثُمَّ انْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً»

وَأَمَرَ بِالْمَقْلِ فَرُبَّمَا كَانَ الطَّعَامُ حَارًّا فَيَمُوتُ الذُّبَابُ فِيهِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّنْجِيسِ لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْفُقَهَاءِ مَذَاهِبُ سَبْعَةٌ فِي أَمْرِ الدِّبَاغِ، فَأَوْسَعُ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا الزُّهْرِيُّ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ الْجُلُودِ بِأَسْرِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَيَلِيهِ دَاوُدُ فَإِنَّهُ قَالَ تَطْهُرُ كُلُّهَا بِالدِّبَاغِ، وَيَلِيهِ مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا، وَيَلِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ كُلُّهَا إِلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ، وَيَلِيهِ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ الْكُلُّ إِلَّا جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَلِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: يَطْهُرُ جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَقَطْ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَطْهُرُ مِنْهَا شَيْءٌ بِالدِّبَاغِ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَةِ: ٣] أَطْلَقَ التَّحْرِيمَ وَمَا قَيَّدَهُ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ حَكِيمٍ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ، أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ، بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وبالقياس جائز، وقد وجدا هاهنا خَبَرَ الْوَاحِدِ

فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»

وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أن الدباغ يعود الْجِلْدَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَ الْحَيَاةِ وَكَمَا كَانَ حَالُ الْحَيَاةِ طَاهِرًا كَذَلِكَ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالْخَبَرُ هُمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ، بِإِطْعَامِ الْبَازِي وَالْبَهِيمَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ الْبَازِي ذَلِكَ فَقَدِ انْتَفَعَ بِتِلْكَ الْمَيْتَةِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ فَأَمَّا إِذَا أَقْدَمَ الْبَازِي مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا مَنْعُهُ أَمْ لَا فِيهِ احْتِمَالَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي دُهْنِ الْمَيْتَةِ وَوَدَكِهَا هَلْ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ أَمْ لَا، وَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ، أَوْ فِي جُمْلَتِهِ مَا هُوَ هَذَا حَالُهُ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ سِوَى الظَّاهِرِ،

وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَاهُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الْأَوْدَاكَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجْمَعُ الْأَوْدَاكَ وَهِيَ مِنَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِلْأَدِيمِ وَالسُّفُنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»

فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ تَحْرِيمَهُ إِيَّاهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا كَمَا أَوْجَبَ تحريم أكلها.