للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِذَا كَانَ قَوْلُ الرُّسُلِ كَالْأَصْلِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ فَلِمَ قَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَالْكُتُبَ فِي الذكر على الرسل؟

الجواب: أن الأمل وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي عُقُولِنَا وَأَفْكَارِنَا، إِلَّا أَنَّ تَرْتِيبَ الْوُجُودِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَلَكَ يُوجَدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ تَبْلِيغِهِ نُزُولُ الْكُتُبِ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الرَّسُولِ، فَالْمُرَاعَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْتِيبُ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، لَا تَرْتِيبُ الِاعْتِبَارِ الذِّهْنِيِّ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خُصَّ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ؟

الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَهَا كُلُّ مَا يلزم أن صدق بِهِ، فَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: مَعْرِفَتُهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْيَوْمِ الْآخِرِ: الْمَعْرِفَةُ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَعَادِ، إِلَى سَائِرِ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْمَلَائِكَةِ مَا يَتَّصِلُ بِأَدَائِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُؤَدِّيَهَا إِلَيْنَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَجَمِيعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ النَّبِيِّينَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّتِهِمْ، وَصِحَّةِ شَرَائِعِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ إِلَّا دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ مَبْدَأً وَوَسَطًا وَنِهَايَةً، ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات، هو الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَصَالِحِ الْوَسَطِ فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةِ الْآتِينَ بِالْوَحْيِ، وَنَفْسِ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُوحَى إليه وهي الرَّسُولُ؟

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قُدِّمَ هَذَا الْإِيمَانُ عَلَى أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ إِيتَاءُ الْمَالِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ.

الْجَوَابُ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحَقُّقِ مُسَمَّى البر قوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَلى حُبِّهِ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ:

وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ:

وَهُوَ أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمَلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى/ الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ:

لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ حَالَ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عِنْدَ الصِّحَّةِ يَحْصُلُ ظَنُّ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ وَعِنْدَ ظَنِّ قُرْبِ الْمَوْتِ يَحْصُلُ ظَنُّ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَالِ، وَبَذْلُ الشَّيْءِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ أَدَلُّ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ بَذْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٢] وَثَانِيهَا: أَنَّ إِعْطَاءَهُ حَالَ الصِّحَّةِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ من إعطاءه حَالَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِعْطَاءَهُ حَالَ الصِّحَّةِ أَشَقُّ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا قِيَاسًا عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْفَقِيرُ مِنْ جُهْدِ الْمُقِلِّ فَإِنَّهُ يَزِيدُ ثَوَابُهُ عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْغَنِيُّ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مَالُهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَوَهَبَهُ مِنْ أَحَدٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ لم يهبه منه لَضَاعَ فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ ضَيَاعِ الْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ طَائِعًا وَرَاغِبًا فكذا هاهنا وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ مُتَأَيِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٢] وَقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: ٨٠] أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ،

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما شبع» .