الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِيتَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يُعْطِي وَيُحِبُّ الْإِعْطَاءَ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي يُعْطُونَ الْمَالَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ أَيْ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْإِيتَاءِ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا الزَّكَاةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَغَايَرَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ أَوْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَدْبًا لَمَا وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِثْلُ إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ هَذَا الْوُجُوبِ النَّصُّ والمعقول، أما النص
فقوله عليه الصلاة والسلام «لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوٍ إِلَى جَنْبِهِ»
وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ تَلَتْ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ فَأَدَّى زَكَاتَهُ فَهَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَاهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَصِلُ الْقَرَابَةَ، وَيُعْطِي السَّائِلَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الضَّرُورَةِ، وَجَبَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُعْطُوهُ مِقْدَارَ دَفْعِ الضَّرُورَةِ/ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّكَاةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَلَوِ امْتَنَعُوا مِنَ الْإِعْطَاءِ جَازَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ قَهْرًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فِي الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ»
وَقَوْلُ الرَّسُولِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ الثَّانِي: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمُضْطَرُّ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الزَّكَاةَ بِالْكَمَالِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتِ الْحُقُوقَ الْمُقَدَّرَةَ، أَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَيَلْزَمُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ لَكِنْ مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ جَامِعًا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ أَوْكَدِ الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِرْثَ وَيَحْجُرُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْوَصِيَّةِ، حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي الثُّلْثِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [آل عمران: ١٨٠] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ قَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً إِلَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ قَدَّمَ ذَا الْقُرْبَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِالْيَتَامَى، لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا كَاسِبَ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ إِذْ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ عِنْدَ اشْتِدَادِ رَغْبَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَرْءِ بِشِدَّةِ حَاجَةِ هَذِهِ الْفِرَقِ تَقْوَى وَتَضْعُفُ، فَرَتَّبَ تَعَالَى ذِكْرَ هَذِهِ الْفِرَقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِشِدَّةِ حَاجَةِ مَنْ يَقْرُبُ إِلَيْهِ أَقْرَبُ، ثُمَّ بِحَاجَةِ الْأَيْتَامِ، ثُمَّ بِحَاجَةِ