الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا النَّسَقِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَا الْقُرْبَى مِسْكِينٌ، وَلَهُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ تَخُصُّهُ لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَاجَةِ فِيهِ تَغُمُّهُ وَتُؤْذِي قَلْبَهُ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ، فَلِذَلِكَ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِي الْقُرْبَى، ثُمَّ بِالْيَتَامَى، وَأَخَّرَ الْمَسَاكِينَ لِأَنَّ الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ عَجْزِ الصِّغَارِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَشَدُّ مِنَ الْغَمِّ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ عَجْزِ الْكِبَارِ عَنْ تَحْصِيلِهِمَا فَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا، وَقَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ فِي الْوَقْتِ، وَالسَّائِلُ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا وَيُظْهِرُ شِدَّةَ الْحَاجَةِ وَأَخَّرَ الْمُكَاتِبَ لِأَنَّ إِزَالَةَ الرِّقِّ لَيْسَتْ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بإيتاء الماء مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِهِ لِلْإِبِلِ قَالَ: «إِنَّ فِيهَا حَقًّا»
هُوَ إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى إِطْرَاقِ الْفَحْلِ أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ابْنُ السَّبِيلِ وَالسَّائِلُ وَالْمُكَاتِبُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِيتَاءَ الْمَالِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ إِنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا بِالزَّكَاةِ، وَهَذَا/ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.
المسألة الثالثة: أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى فَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ النَّفْلِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى لِلْمُعْطِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمْ بِهِ أَخَصُّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى [النُّورِ: ٢٢] وَاعْلَمْ أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى هُمُ الَّذِينَ يَقْرُبُونَ مِنْهُ بِوِلَادَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ بِوِلَادَةِ الْجَدَّيْنِ، فَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمِيَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمَّا الْقَرَابَةُ فَهِيَ لَفْظَةٌ لُغَوِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، أَمَّا الْيَتَامَى فَفِي النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ذَوِي الْيَتَامَى، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَعْرِفُ وُجُوهَ مَنَافِعِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخْطِئًا بَلْ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُرَاهِقًا عَارِفًا بِمَوَاقِعِ حَظِّهِ، وَتَكُونُ الصَّدَقَةُ مِنْ بَابِ مَا يُؤَكَلُ وَيُلْبَسُ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْيَتِيمِ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهِ جَازَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْيَتِيمُ هُوَ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ مَعَ الصِّغَرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا هَذَا الِاسْمُ قد يقع على الصغر وَعَلَى الْبَالِغِ وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاءِ: ٢٠] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَوْنَ الْمَالَ إِلَّا إِذَا بَلَغُوا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى:
يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْيَتِيمُ بَالِغًا دُفِعَ الْمَالُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيُدْفَعُ إِلَى وَلِيِّهِ، وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ فَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَالَّذِي نَقُولُهُ هُنَا: إِنَّ الْمَسَاكِينَ أَهْلُ الْحَاجَةِ، ثُمَّ هُمْ ضَرْبَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُفُّ عَنِ السؤال وهو المراد هاهنا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ وَيَنْبَسِطُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالسَّائِلِينَ وَإِنَّمَا فَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ يَظْهَرُ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمَسْكَنَةُ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ يَعْرِفُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْمُسَافِرُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الضَّيْفُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْكَ مِنَ السَّبِيلِ، وَالْأَوَّلُ أشبه لأن السبيل لِلطَّرِيقِ وَجُعِلَ الْمُسَافِرُ ابْنًا لَهُ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ كَمَا يُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ: ابْنُ الْمَاءِ وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ: ابْنُ الْأَيَّامِ. وَلِلشُّجْعَانِ: بَنُو الْحَرْبِ. وَلِلنَّاسِ: بَنُو الزَّمَانِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَرَدْتُ عِشَاءً وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قمة الرأس ابن ماء ملحق
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّائِلِينَ فَعَنَى بِهِ الطَّالِبِينَ، وَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ أَدْخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُسْلِمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute