هَكَذَا بَلْ قَالَ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ وَجَوَابُهُ: إِنَّ الْفَرْقَ هُوَ أَنَّ الْمَرَضَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ: فَإِنْ حَصَلَتْ حَصَلَتْ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا السَّفَرُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَزَلَ فِي مَنْزِلٍ فَإِنْ عَدِمَ الْإِقَامَةَ كَانَ سُكُونُهُ هُنَاكَ إِقَامَةً لَا سَفَرًا وَإِنْ عَدِمَ السَّفَرَ كَانَ هُوَ فِي ذلك الكون مُسَافِرًا فَإِذَنْ كَوْنُهُ مُسَافِرًا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَقَوْلُهُ: عَلى سَفَرٍ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعِدَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْعَدِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ الْمَعْدُودَةِ مِنَ النَّاسِ عِدَّةٌ وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: فَعِدَّةٌ عَلَى التَّنْكِيرِ وَلَمْ يَقُلْ فَعِدَّتُهَا أَيْ فَعِدَّةُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ.
قُلْنَا: لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِدَّةَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ فَأَمَرَ بِأَنْ يَصُومَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً مَكَانَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَعِدَّةٌ قُرِئَتْ مَرْفُوعَةً وَمَنْصُوبَةً، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى مَعْنَى فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَأَمَّا إِضْمَارُ «عَلَيْهِ» فَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْفَاءِ. وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى مَعْنَى: فَلْيَصُمْ عِدَّةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَا وَيَصُومَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِعْلَامِ التَّنْزِيلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ صَامَ فِي السَّفَرِ قَضَى فِي الْحَضَرِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ فَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْقُرْآنُ فمن وجهين الأول: أنا إن قرأنا فعدة بِالنَّصْبِ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَهَذَا لِلْإِيجَابِ، وَلَوْ أَنَّا قَرَأْنَا بِالرَّفْعِ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ، وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي إِيجَابَ صَوْمِ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِطْرُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاجِبًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْجَمْعِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهَا يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْيُسْرُ وَالْعُسْرُ شَيْئًا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ يُسْرٌ إِلَّا أَنَّهُ أُذِنَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عُسْرٌ إِلَّا كَوْنَهُمَا صَائِمَيْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ مَعْنَاهُ يُرِيدُ مِنْكُمُ الْإِفْطَارَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكُمُ الصَّوْمَ فَذَلِكَ تَقْرِيرُ قَوْلِنَا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَاثْنَانِ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»
لَا يُقَالُ هَذَا الْخَبَرُ وَارِدٌ عَنْ سَبَبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ تَحْتَ مِظَلَّةٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا صَائِمٌ أَجْهَدَهُ الْعَطَشُ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»
لِأَنَّا نَقُولُ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَالثَّانِي:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّائِمُ فِي/ السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» .
أَمَّا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: فَهِيَ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِضْمَارًا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي كَلَامِ اللَّهِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ على وقوعه هاهنا أَمَّا بَيَانُ الْجَوَازِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: ٦٠] وَالتَّقْدِيرُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا