للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ

إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: ١٩٦] أي فلحق فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِضْمَارَ جَائِزٌ، أَمَّا إِنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ فَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا ضَعِيفٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا أَجْرَيْنَا ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥] عَلَى الْعُمُومِ لَزِمَنَا الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الْإِضْمَارِ كَانَ تَحَمُّلُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَصُمْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَيْنًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوُجُوبَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّهِمَا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ سَوَاءٌ أَجْرَيْنَا قَوْلَهَ تَعَالَى فَعَلَيْهِ: عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ الْبَسِيطِ، فَقَالَ: الْقَضَاءُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالْإِفْطَارِ لَا بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، فَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ الْقَضَاءَ وَالْقَضَاءُ مَسْبُوقٌ بِالْفِطْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْإِفْطَارِ وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى بَلْ قَالَ: فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَإِيجَابُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْإِفْطَارِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا

رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَصُومُ عَلَى السَّفَرِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صُمْ إِنْ شِئْتَ وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ»

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُوبَ صَوْمِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، فَرَفْعُ هَذَا الْخَبَرُ غَيْرُ جَائِزٍ إِذَا ثَبَتَ ضَعْفُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَالِاعْتِمَادُ فِي إِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:

وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لِمَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الصَّوْمَ جَائِزٌ فَرْعَانِ:

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ أَمِ الْفِطْرَ؟ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الصَّوْمُ أَفْضَلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ الْفِطْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ أَيْسَرُهُمَا عَلَى الْمَرْءِ.

حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.

حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْطَارُ أَفْضَلَ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذِّمَّةَ تَبْقَى مَشْغُولَةً بِقَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ إِذَا قَصَرَهَا وَالثَّانِي: أَنَّ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ تَفُوتُ بِالْفِطْرِ وَلَا تَفُوتُ بِالْقَصْرِ.

حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ صَامَ وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ أَيْسَرَ أَفْطَرَ.