للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَلَا حَاجَةَ أَيْضًا إِلَى الدُّعَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَا بُدَّ مِنِ انْتِهَائِهَا بِالْآخِرَةِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ، وَإِمَّا الدَّوْرُ وَإِمَّا وُقُوعُ الْحَادِثِ مِنْ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ انْتِهَائِهَا بِالْآخِرَةِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ الْقَدِيمِ، فَكُلُّ مَا اقْتَضَى ذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ الْقَدِيمُ وُجُودَهُ اقْتِضَاءً قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَقْتَضِ الْمُؤَثِّرُ الْقَدِيمُ وُجُودَهُ اقْتِضَاءً قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَلَمَّا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ الْبَتَّةَ أَثَرٌ، وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنْ قَالُوا: الْأَقْدَارُ سَابِقَةٌ وَالْأَقْضِيَةُ مُتَقَدِّمَةٌ وَالدُّعَاءُ لَا يَزِيدُ فِيهَا وَتَرْكُهُ لَا يُنْقِصُ شَيْئًا مِنْهَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الدُّعَاءِ،

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِكَذَا وَكَذَا عَامًا

وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ»

وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهَا: الْعُمْرُ وَالرِّزْقُ وَالْخَلْقُ وَالْخُلُقُ»

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: ١٩] فَأَيُّ حَاجَةٍ بِالدَّاعِي إِلَى الدُّعَاءِ؟ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ بَلَغَ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مِنْ مَصَالِحِ الْعَبْدِ فَالْجَوَادُ الْمُطْلَقُ لَا يُهْمِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَصَالِحِهِ لَمْ يَجُزْ طَلَبُهُ وَخَامِسُهَا: ثَبَتَ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَجَلَّ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ وَأَعْلَاهَا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءُ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالِالْتِمَاسِ وَتَرْجِيحٌ لِمُرَادِ النَّفْسِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبُهُ لِحِصَّةِ الْبَشَرِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الدُّعَاءَ يُشْبِهُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ سُوءُ أَدَبٍ وَسَابِعُهَا:

رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ رِوَايَةً عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»

قَالُوا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْأَوْلَى تَرَكُ الدُّعَاءِ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْعُقَلَاءِ: إِنَّ الدُّعَاءَ أَهَمُّ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ مِنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، أَمَّا الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ السُّؤَالَ وَالْجَوَابُ فِي كِتَابِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أُصُولِيَّةٌ وَمِنْهَا فروعية، أما الأصولية فقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: ٨٥] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: ١٠٥] ويَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [النَّازِعَاتِ: ٤٢] وَأَمَّا الْفُرُوعِيَّةُ فَمِنْهَا فِي البقرة على التوالي يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة: ٢١٩] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة: ٢١٧] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: ٢١٩] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة: ٢٢٠] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة: ٢٢٢] وقال أيضا: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال: ١] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الْكَهْفِ: ٨٣] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يُونُسَ: ٥٣] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: ١٧٦] .

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ جَاءَتْ أَجْوِبَتُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ فَالْأَغْلَبُ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى السُّؤَالَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ: قُلْ وَفِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ جَاءَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ سُؤَالٌ عَنْ قِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: ١٠٥] كَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَجِبْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْحَالِ وَلَا تُؤَخِّرِ الْجَوَابَ فَإِنَّ الشَّكَّ فِيهِ كُفْرٌ ثُمَّ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ النَّسْفَ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَبَلِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا فِي الْكُلِّ وَجَوَازُ عَدَمِهِ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ قِدَمِهِ، أَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَهِيَ فُرُوعِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا فَاءَ التَّعْقِيبِ، أَمَّا الصُّورَةُ الثالثة وهي