للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَمْ يَقُلْ فَقُلْ إِنِّي قَرِيبٌ فَتَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ الدُّعَاءِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ عَبْدِي أَنْتَ إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى الْوَاسِطَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الدُّعَاءِ أَمَّا فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ وَقَوْلَهُ:

فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لِلْعَبْدِ وَثَالِثُهَا: لَمْ يَقُلْ: فَالْعَبْدُ مِنِّي قَرِيبٌ، بَلْ قَالَ: أَنَا مِنْهُ قَرِيبٌ، وَفِيهِ سِرٌّ نَفِيسٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ فِي مَرْكَزِ الْعَدَمِ وَحَضِيضِ الْفَنَاءِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّبِّ أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْقَادِرُ مِنْ أَنْ يَقْرُبَ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَالْقُرْبُ مِنَ الحق إلى العبد/ لا من العبد إلا الْحَقِّ فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدَّاعِيَ مَا دَامَ يَبْقَى خَاطِرُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاعِيًا لَهُ فَإِذَا فَنِيَ عَنِ الْكُلِّ صَارَ مُسْتَغْرِقًا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحَدِ الْحَقِّ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَبْقَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُلَاحِظًا لِحَقِّهِ وَطَالِبًا لِنَصِيبِهِ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْوَسَائِطُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ الْقُرْبُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ يَبْقَى الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إِلَى غَرَضِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَرَضَ يَحْجُبُهُ عَنِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الدُّعَاءَ يُفِيدُ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ، فَكَانَ الدُّعَاءُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرِ: ٦٠] .

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بَلْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ يَغْضَبْ فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ

[الْأَنْعَامِ: ٤٣]

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»

وَقَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ

فَقَوْلُهُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»

مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ،

كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْحَجُّ عَرَفَةُ»

أَيِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ هُوَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: ٥٥] وقال: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ [الْفُرْقَانِ: ٧٧] وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ فَمَنْ أَبْطَلَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْقُرْآنَ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّهَا مُتَنَاقِضَةٌ، لِأَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى الدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِكُمْ بِإِبْطَالِ الدُّعَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ إِلَى إِنْكَارِكِمْ حَاجَةٌ، ثُمَّ نَقُولُ: كَيْفِيَّةُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَيْفِيَّةُ قَضَائِهِ وَقَدَرِهُ غَائِبَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُعَلَّقًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَبَيْنَ الْخَوْفِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَحَّحْنَا الْقَوْلَ بِالتَّكَالِيفِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْكُلِّ وَجَرَيَانِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فِي الْكُلِّ، وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ

سَأَلَتِ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ أَعْمَالَنَا هَذِهِ أَشَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَمْ أَمْرٌ يَسْتَأْنِفُهُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. فَقَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذَنْ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»

فَانْظُرْ إِلَى لَطَائِفَ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ عليه السلام علقهم بين الأمرين فربهم سَابِقَ الْقَدَرِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ ثُمَّ أَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ مُدْرَجَةُ التَّعَبُّدِ، فَلَمْ يُعَطِّلْ ظَاهِرَ الْعَمَلِ بِمَا يُفِيدُ مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لِلْآخَرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَائِدَةَ الْعَمَلِ هُوَ الْمُقَدَّرُ الْمَفْرُوغُ مِنْهُ

فَقَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»

يُرِيدُ أَنَّهُ مُيَسَّرٌ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ لِلْعَمَلِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ الْقَدَرُ قَبْلَ وُجُودِهِ، إِلَّا أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ تعلم هاهنا فَرْقَ مَا بَيْنَ الْمُيَسَّرِ وَالْمُسَخَّرِ فَتَأَهَّبْ لِمَعْرِفَتِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَابِ الْكَسْبِ وَالرِّزْقِ