للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنَّهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ لَا يَزِيدُهُ الطَّلَبُ وَلَا يَنْقُصُهُ التَّرْكُ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ الْإِعْلَامُ، بَلْ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالِانْكِسَارِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَا لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ مَصْلَحَةً بِحَسَبِ سَبْقِ الدُّعَاءِ وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مِنَ الدُّعَاءِ إِظْهَارَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ ثُمَّ بَعْدُ رضى بما قدره الله وقضاء، فَذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ الشُّبَهِ فِي هَذَا الْبَابِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ مُشْكِلٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تعالى قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وَكَذَلِكَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: ٦٢] ثُمَّ إِنَّا نَرَى الدَّاعِيَ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَلَا يُجَابُ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ آيَةٌ أُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الْأَنْعَامِ: ٤١] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ تَقْرِيرُ الْمَعْنَى فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الدَّاعِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَجِدَ مِنْ دُعَائِهِ عِوَضًا، إِمَّا إِسْعَافًا بِطَلَبَتِهِ الَّتِي لِأَجْلِهَا دَعَا وَذَلِكَ إِذَا وَافَقَ الْقَضَاءَ، فَإِذَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْقَضَاءُ فَإِنَّهُ يُعْطَى سَكِينَةً فِي نَفْسِهِ، وَانْشِرَاحًا فِي صَدْرِهِ، وَصَبْرًا يَسْهُلُ مَعَهُ احْتِمَالُ الْبَلَاءِ الْحَاضِرِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَعْدَمُ فَائِدَةً، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ وَثَانِيهَا: مَا

رَوَى الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لا ترد إلا لإحدى ثلاثة: مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، إِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِ مَا دَعَا» .

وَهَذَا الْخَبَرُ تَمَامُ الْبَيَانِ فِي الْكَشْفِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ:

أَسْتَجِبْ لَكُمْ فِي الْحَالِ فَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُ وَلَوْ فِي الْآخِرَةِ كَانَ الْوَعْدُ صِدْقًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي عَارِفًا بِرَبِّهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا لَهُ، بَلْ لِشَيْءٍ مُتَخَيَّلٍ لا وجود له ألبتة، فثبت أن الشرط الدَّاعِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِرَبِّهِ وَمِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ إِلَّا مَا وَافَقَ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ وَعِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ صِفَةَ الرَّبِّ هَكَذَا اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ وَبِعَقْلِهِ: يَا رَبِّ أَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ لَا مَحَالَةَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ: أَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ وَحِكْمَتِكَ، وَعِنْدَ هَذَا يَصِيرُ الدُّعَاءُ الَّذِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِجَابَةِ عَلَيْهِ مَشْرُوطًا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَالَ السُّؤَالُ الرَّابِعُ أَنَّ لَفْظَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ عِبَارَةً عَنِ التَّوْحِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِ الْعَبْدِ: يَا اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَهَذَا إِنَّمَا سُمِّيَ دُعَاءً لِأَنَّكَ عَرَفْتَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ وَحَّدْتَهُ وَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِ، فَهَذَا يُسَمَّى دُعَاءً بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَلَمَّا سُمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى دُعَاءً سُمِّي قَبُولُهُ إِجَابَةً لِتَجَانُسِ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ كثير وقال ابن الأنباري: أُجِيبُ هاهنا بِمَعْنَى أَسْمَعُ لِأَنَّ بَيْنَ السَّمَاعِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ نَوْعُ مُلَازَمَةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، فَقَوْلُنَا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ اللَّهُ فكذا هاهنا قَوْلُهُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ أَيْ أَسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَةَ، فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَ الْإِشْكَالُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدُّعَاءِ