لَكُمْ
مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِكُمْ فَقَدْ أُحِلُّ لَكُمْ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثالثة: فضعيفة أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا الصَّوْمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي ذلك الإيجاب زَوَالَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فَكَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ تِلْكَ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي شَرْعِنَا مَا دَلَّ عَلَى زَوَالِهَا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهَا، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا الْوَهْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ/ مِنْ قَبْلِكُمْ فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ حُصُولُ الْمُشَابِهَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي هَذَا الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً قَوِيَّةً إِلَّا أَنَّهَا لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ شُبْهَةً مُوهِمَةً فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاءَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فِي شَرْعِنَا، فَلَا جَرَمَ شَدَّدُوا وَأَمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وَأَرَادَ بِهِ تَعَالَى النَّظَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّخْفِيفِ لَهُمْ بِمَا لَوْ لَمْ تَتَبَيَّنِ الرُّخْصَةُ فِيهِ لَشَدَّدُوا وَأَمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَمَنَعُوهَا مِنَ الْمُرَادِ، وَأَصْلُ الْخِيَانَةِ النَّقْصُ، وَخَانَ وَاخْتَانَ وَتَخَوَّنُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ: كَسَبَ وَاكْتَسَبَ وَتَكَسَّبُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ إِحْلَالُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ طُولَ اللَّيْلِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَنْقُصُونَ أَنْفُسَكُمْ شَهَوَاتِهَا وَتَمْنَعُونَهَا لَذَّاتِهَا وَمَصْلَحَتِهَا بِالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ النَّوْمِ كَسُنَّةِ النَّصَارَى.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْعِبَادِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَمِنَ اللَّهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ التَّجَاوُزُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَيْنَا بِتَخْفِيفِ مَا جَعَلَهُ ثَقِيلًا عَلَى مَنْ قَبْلَنَا كَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] .
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِسَبَبِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ مُمْتَنِعِينَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَا جَرَمَ قَالَ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِحُكْمٍ كَانَ مَشْرُوعًا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِبَابِ الْعَمَلِ وَلَا يَكُونُ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِيهِ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِمَا فَعَلُوا عِنْدَ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ هُوَ الْمُبَاشَرَةُ، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَهَذَا حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا، ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّرِيعَةِ يُحَلُّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، مَا لَمْ يَرْقُدِ الرَّجُلُ أَوْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَإِذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْآتِيَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَشِيَّةً وَقَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: اسْمُهُ أَبُو صِرْمَةَ، وَقَالَ الْبَرَاءُ: قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ، وَقِيلَ:
صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِ ضَعْفِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَمِلْتُ فِي النَّخْلِ نَهَارِي أَجْمَعَ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَأَتَيْتُ أَهْلِي لِتُطْعِمَنِي شَيْئًا فَأَبْطَأَتْ فَنِمْتُ فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الْأَكْلُ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ من مثله. رجعت إلى أهلي بعد ما صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَأَتَيْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
لَمْ تَكُنْ جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ ثُمَّ قَامَ رِجَالٌ فَاعْتَرَفُوا بِالَّذِي صَنَعُوا فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ/ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute