للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَخَذْتُ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَكُنْتُ أَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَأَنْظُرُ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِيَ الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» ،

وَإِنَّمَا

قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا»

لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بَلَاهَةِ الرَّجُلِ، وَنَقُولُ: يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ بَيَاضِ أَوَّلِ النَّهَارِ وَسَوَادِ آخِرِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ بَيَاضَ الصُّبْحِ الْمُشَبَّهَ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ هُوَ بَيَاضُ الصُّبْحِ الْكَاذِبُ، لِأَنَّهُ بَيَاضٌ مُسْتَطِيلٌ يُشْبِهُ الْخَيْطَ، فَأَمَّا بَيَاضُ الصُّبْحِ الصَّادِقُ فَهُوَ بَيَاضٌ مُسْتَدِيرٌ فِي الْأُفُقِ فَكَانَ يَلْزَمُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الصُّبْحِ الْكَاذِبِ/ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَوْلَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنَ الْفَجْرِ لَكَانَ السُّؤَالُ لَازِمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَجْرَ إِنَّمَا يُسَمَّى فَجْرًا لِأَنَّهُ يَنْفَجِرُ مِنْهُ النُّورُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الصُّبْحِ الثَّانِي لَا فِي الصُّبْحِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَجْرِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الصُّبْحَ الْكَاذِبَ بَلِ الصُّبْحَ الصَّادِقَ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُشَبَّهُ الصُّبْحُ الصَّادِقُ بِالْخَيْطِ، مَعَ أَنَّ الصُّبْحَ الصَّادِقَ لَيْسَ بِمُسْتَطِيلٍ وَالْخَيْطَ مُسْتَطِيلٌ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْقَدْرَ مِنَ الْبَيَاضِ الَّذِي يَحْرُمُ هُوَ أَوَّلُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ، وَأَوَّلُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ لَا يَكُونُ مُنْتَشِرًا بَلْ يَكُونُ صَغِيرًا دَقِيقًا، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّبْحِ الْكَاذِبِ أَنَّ الصُّبْحَ الْكَاذِبَ يَطْلُعُ دَقِيقًا، وَالصَّادِقُ يَبْدُو دَقِيقًا، وَيَرْتَفِعُ مُسْتَطِيلًا فَزَالَ السُّؤَالُ، فَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الْفَجْرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ «حَتَّى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَنْتَهِي عِنْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ، وَزَعَمَ أبو مسلم الأصفهاني لَا شَيْءَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ إِلَّا أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ مِنْ تَكَلُّفِ الْقَيْءِ وَالْحُقْنَةِ وَالسُّعُوطِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِمُفْطِرٍ، قَالَ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ مُبَاحَةً ثُمَّ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَةِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الصَّائِمِ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهَا عَلَى الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا مُفْطِرًا وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَيْءُ وَالْحُقْنَةُ فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُمَا، وَالسُّعُوطُ نَادِرٌ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بن جني أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْمٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً إِلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلَّا بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ الْأَعْمَشُ أَنَّهُ يَحِلُّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قِيَاسًا لِأَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى آخِرِهِ، فَكَمَا أَنَّ آخِرَهُ بِغُرُوبِ الْقُرْصِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ بِطُلُوعِ الْقُرْصِ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الأسود النهار والليل، ووجه الشبهة لَيْسَ إِلَّا فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي الشَّكْلِ مُرَادًا فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ظُلْمَةَ الْأُفُقِ حَالَ طُلُوعِ الصُّبْحِ لَا يُمْكِنُ تَشْبِيهُهَا بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فِي الشَّكْلِ الْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ هُوَ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ ثُمَّ لَمَّا بَحَثْنَا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ