مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَكُلُّ ما كان أفضى إلى تكثير كَانَ أَفْضَلَ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِيجَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيجَابَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَا يُفِيدُ الثَّانِي، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّانِي أَفَادَ الْأَوَّلَ، فَكَانَ الثَّانِي أَكْثَرَ فَائِدَةً، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى مَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقِرَانَ جَمْعٌ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ فِي الْقِرَانِ مُسَارَعَةً إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ: وَسارِعُوا [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٣] .
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ دَلَالَةَ مَا هُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً عَلَى الْإِفْرَادِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَمُجَرَّدُ حُسْنِ ظَنٍّ حَيْثُ قُلْتُمْ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً أَوْلَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّرْجِيحُ لِقَوْلِنَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ: أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقَارِنُ يَفْعَلُهُ الْمُفْرِدُ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْقِرَانَ كَانَ/ حِيلَةً فِي إِسْقَاطِ الطَّاعَةِ فَيَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَخَّصًا فِيهِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فَلَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَقُولُ إِنَّ الْحَجَّةَ الْمُفْرَدَةَ بِلَا عُمْرَةٍ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجَّةِ الْمَقْرُونَةِ لَكِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَتَى بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِهَا فَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْحَجَّةِ الْمَقْرُونَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْإِتْمَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ إِتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ
وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ نَوَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ مَنَعَ الْكُفَّارُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ حَتَّى يُتِمَّ هَذَا الْفَرْضَ، وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ تَطَوُّعَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَرْضَيْهِمَا فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ثُمَّ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُتِمُّوا الْآدَابَ الْمُعْتَبَرَةَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ فَقَالَ: الْأُمُورُ الْمُعْتَبَرَةُ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْإِحْرَامِ ثَمَانِيَةٌ الْأَوَّلُ: فِي الْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّوْبَةِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَإِعْدَادِ النَّفَقَةِ لِكُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ، وَيَرُدَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَيَسْتَصْحِبَ مِنَ الْمَالِ الطَّيِّبِ الْحَلَالِ مَا يَكْفِيهِ لِذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ بَلْ عَلَى وَجْهٍ يُمَكِّنُهُ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الزَّادِ وَالرِّفْقِ بِالْفُقَرَاءِ، وَيَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَيَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ دَابَّةً قَوِيَّةً عَلَى الْحَمْلِ أَوْ يَكْتَرِيَهَا، فَإِنِ اكْتَرَاهَا فَلْيُظْهِرْ لِلْمُكَارِي كُلَّ مَا يَحْصُلُ رِضَاهُ فِيهِ الثَّانِي: فِي الرَّفِيقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ رَفِيقًا صَالِحًا مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُعِينًا عَلَيْهِ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ سَاعَدَهُ، وَإِنْ جَبُنَ شَجَّعَهُ، وَإِنْ عَجَزَ قَوَّاهُ وَإِنْ ضَاقَ صَدْرُهُ صَبَّرَهُ، وَأَمَّا الْإِخْوَانُ وَالرُّفَقَاءُ الْمُقِيمُونَ فَيُوَدِّعُهُمْ، وَيَلْتَمِسُ أَدْعِيَتَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي دُعَائِهِمْ خَيْرًا، وَالسُّنَّةُ فِي الْوَدَاعِ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ الثَّالِثُ: فِي الْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ، فَإِذَا هَمَّ بِالْخُرُوجِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بعد الفاتحة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute