للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثَعْلَبٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ: أُحْصِرَ بِالْمَرَضِ وَحُصِرَ بِالْعَدُوِّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْإِحْصَارِ يُفِيدُ الْحَبْسَ وَالْمَنْعَ، سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ أَوْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ/ يَرُدُّونَ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَحْثِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَ حَبْسِ الْعَدُوِّ ثَابِتٌ، وَهَلْ يَثْبُتُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَسَائِرِ الْمَوَانِعِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَثْبُتُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا:

الَّذِينَ قَالُوا: الْإِحْصَارُ مُخْتَصٌّ بِالْحَبْسِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَصًّا صَرِيحًا فِي أَنَّ إِحْصَارَ الْمَرَضِ يُفِيدُ هَذَا الْحُكْمَ وَالثَّانِي: الَّذِينَ قَالُوا الْإِحْصَارُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْحَبْسِ سَوَاءٌ كَانَ حَاصِلًا بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَوْ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ ظَاهِرَةً أَيْضًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى مُسَمَّى الْإِحْصَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عِنْدَ حُصُولِ الْإِحْصَارِ سَوَاءٌ حَصَلَ بِالْعَدُوِّ أَوْ بِالْمَرَضِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنَّ الْإِحْصَارَ اسْمٌ لِلْمَنْعِ الْحَاصِلِ بِالْعَدُوِّ، فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَنَحْنُ نَقِيسُ الْمَرَضَ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَامِعِ دَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ ظَاهِرٌ فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعُ الْعَدُوِّ فَقَطْ، وَالرِّوَايَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُمَا أَوْلَى لِتَقَدُّمِهِمَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَدْنَى فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ.

الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِحْصَارَ إِفْعَالٌ مِنَ الْحَصْرِ وَالْإِفْعَالُ تَارَةً يَجِيءُ بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ نَحْوَ: ذَهَبَ زَيْدٌ وَأَذْهَبْتُهُ أَنَا، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى صَارَ ذَا كَذَا نَحْوَ: أَغَدَّ الْبَعِيرُ إِذَا صَارَ ذَا غُدَّةٍ، وَأَجْرَبَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ ذَا إِبِلٍ جَرْبَى وَيَجِيءُ بِمَعْنَى وَجَدْتُهُ بِصِفَةِ كَذَا نَحْوَ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ أَيْ وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا وَالْإِحْصَارُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَوَجَبَ إِمَّا حَمْلُهُ عَلَى الصَّيْرُورَةِ أَوْ عَلَى الْوِجْدَانِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَارُوا مَحْصُورِينَ أَوْ وُجِدُوا مَحْصُورِينَ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَحْصُورَ هُوَ الْمَمْنُوعُ بِالْعَدُوِّ لَا بِالْمَرَضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِحْصَارِ هُوَ أَنَّهُمْ صَارُوا مَمْنُوعِينَ بِالْعَدُوِّ، أَوْ وُجِدُوا مَمْنُوعِينَ بِالْعَدُوِّ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ مَذْهَبَنَا.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْحَصْرَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ وَمَحْبُوسٌ عَنْ مُرَادِهِ، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ مَنَعَهُ مَانِعٌ عَنْهُ، وَالْقُدْرَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَسَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ الْبَتَّةَ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَسْتَحِيلُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ إِحَالَةَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَانِعِ تَسْتَدْعِي حُصُولَ الْمُقْتَضِي، أَمَّا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِالْعَدُوِّ فَهَهُنَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْفِعْلِ حَاصِلَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْفِعْلُ لِأَجْلِ مُدَافَعَةِ العدو، فصح هاهنا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِحْصَارِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَدُوِّ، / وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْمَرَضِ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُحْصِرْتُمْ أَيْ حُبِسْتُمْ وَمُنِعْتُمْ وَالْحَبْسُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَابِسٍ، وَالْمَنْعُ لَا بُدَّ