للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي هَذَا الْقَدْرِ بَيَانُ أَنَّهُ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا قَالَ/ بَعْدَهُ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِي وَالْحَجُّ أَيْضًا مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ، عَلَى مَا قَالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَكَمَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى مَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالْعَقْلُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا فِي حَقِّ الصَّوْمِ فَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَطَّلِعُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ جِدًّا، فَلَا جَرَمَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَجُّ أَيْضًا عِبَادَةٌ لَا يَطَّلِعُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَاقٌّ جِدًّا لِأَنَّهُ يُوجِبُ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَيُوجِبُ التَّبَاعُدَ عَنْ أَكْثَرِ اللَّذَّاتِ، فَلَا جَرَمَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْعَشَرَةَ بَعْضُهُ وَاقِعٌ فِي زَمَانِ الْحَجِّ فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ شَاقَّيْنِ جِدًّا، وَبَعْضُهُ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ وَهُوَ انْتِقَالٌ مَنْ شَاقٍّ إِلَى شَاقٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ، وَشَهِدَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ، فَقَالَ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَإِنَّ التَّنْكِيرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْحَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:

عَشَرَةٌ وَأَيَّةُ عَشَرَةٍ، عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ اشتمال هذه الكلمة على هذا الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ، وَسَقَطَ بِهَذَا الْبَيَانِ طَعْنُ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ذِكْرُ مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعُ مِنَ الْهَدْيِ وَبَدَلِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُمْ ذِكْرُ تَمَتُّعِهِمْ. فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَقْرَبِ، وَهُوَ لُزُومُ الْهَدْيِ وَبَدَلِهِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، أَيْ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَلَا بَدَلُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْهَدْيَ إِنَّمَا لَزِمَ الْآفَاقِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ: فَلَمَّا أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ عَنِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ عَنِ الْحَجِّ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ، فَقَدْ حَصَلَ هُنَاكَ الْخَلَلُ فَجُعِلَ مَجْبُورًا بِهَذَا الدَّمِ، وَالْمَكِّيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّمَتُّعِ لَا يُوقِعُ خَلَلًا فِي حَجِّهِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَلَا بَدَلٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَبْعَدِ، وَهُوَ ذِكْرُ التَّمَتُّعِ، وَعِنْدَهُ لَا مُتْعَةَ وَلَا قِرَانَ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ هُوَ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ.

الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَمِيُّ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ كِنَايَةٌ فَوَجَبَ عَوْدُهَا إِلَى الْمَذْكُورِ الْأَقْرَبِ، وَهُوَ وُجُوبُ/ الْهَدْيِ، وَإِذَا خَصَّ إِيجَادَ الْهَدْيِ بِالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي يَكُونُ آفَاقِيًّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ غَيْرَ الْآفَاقِيِّ قَدْ يَكُونُ أَيْضًا مُتَمَتِّعًا.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْقِرَانَ وَالْمُتْعَةَ إِبَانَةً لِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهِمُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالنَّسْخُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْرَادِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُتْعَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَدَنِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الْمَكِّيَّ