وَالْجَاهُ، فَقَوْلُهُ: آتِنا فِي الدُّنْيا يَتَنَاوَلُ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَانَ يُرَادُ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّرَفُّعِ بِهِ عَلَى الْأَقْرَانِ كَانَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ إِذَا كَانَتْ تُرَادُ لِلرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَضَبْطِ مَصَالِحِهَا كَانَتْ مِنَ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْمَعَادِ فَإِنَّهُ لَا يَطْلُبُ فَضِيلَةً لَا رُوحَانِيَّةً وَلَا جُسْمَانِيَّةً إِلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ هَذَا الْفَرِيقِ وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أَيْ لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشُّورَى: ٢٠] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي طَلَبَهُ فِي الدُّنْيَا هَلْ أُجِيبُ لَهُ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِجَابَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مُجَابَ الدَّعْوَةِ صِفَةُ مَدْحٍ فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْكَرَامَةِ لكنه وإن لَمْ يَجِبْ فَإِنَّهُ مَا دَامَ مُكَلَّفًا حَيًّا فَاللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ رِزْقَهُ عَلَى مَا قَالَ:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: ٦] وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ مُجَابًا، لَكِنَّ تِلْكَ الْإِجَابَةَ قَدْ تَكُونُ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمْنِ، وَالْكِفَايَةِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْخِصْبَ وَالسَّعَةَ فِي الرِّزْقِ، وَمَا أَشْبَهَهُ «حَسَنَةً» فَقَالَ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَةِ: ٥٠] وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: ٥٢] أَنَّهُمَا الظَّفَرُ وَالنُّصْرَةُ وَالشَّهَادَةُ، وَأَمَّا الْحَسَنَةُ في الآخرة فهي الفوز بالثوب، وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَنَسٍ: ادْعُ لَنَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» قَالُوا: زِدْنَا فَأَعَادَهَا قَالُوا زِدْنَا قَالَ مَا تُرِيدُونَ؟ قَدْ سَأَلْتُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَقَدْ صَدَقَ أَنَسٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ دَارٌ سِوَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِذَا سَأَلَ حَسَنَةَ الدُّنْيَا وَحَسَنَةَ الْآخِرَةِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سِوَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا الْعَمَلُ النَّافِعُ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ اللَّذَّةُ الدَّائِمَةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِ اللَّهِ/ وَبِالْأُنْسِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَبِرُؤْيَتِهِ
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَالَ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنه يَقُولُ: آتِنَا فِي الدُّنْيَا عَمَلًا صَالِحًا
وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٤] وَتِلْكَ الْقُرَّةُ هِيَ أَنْ يُشَاهِدُوا أَوْلَادَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ مُطِيعِينَ مُؤْمِنِينَ مُوَاظِبِينَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ طَلَبُ الْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا فَهْمُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْبَحْثِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ، آتِنَا فِي الدُّنْيَا الْحَسَنَةَ وَفِي الْآخِرَةِ الْحَسَنَةَ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الحسنات، ولكنه قال: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى مَا رَآهُ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute