للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: آتِنَا الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَسَنَةَ فِي الْآخِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَقْسَامِ فَلِمَ تُرِكَ ذَلِكَ وَذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ؟

قُلْتُ: الَّذِي أَظُنُّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا وَكَذَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا مَصْلَحَةً لِي وَمُوَافِقًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ فَأَعْطِنِي ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ جَزْمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا لَمَّا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ فَقَالَ أَعْطِنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْحَسَنَةُ الَّتِي تَكُونُ مُوَافِقَةً لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَرِضَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى رِعَايَةِ الْأَدَبِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أُصُولِ الْيَقِينِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فَقَطِ الَّذِينَ سَأَلُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ أَيْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ نَصِيبٌ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى قَدْرِ مَا نواه، فمن أنكر البحث وَحَجَّ الْتِمَاسًا لِثَوَابِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ مِنْهُ كُفْرٌ وَشِرْكٌ وَاللَّهُ مُجَازِيهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ لِلدُّنْيَا أُعْطِيَ نَصِيبٌ مِثْلُهُ فِي دُنْيَاهُ كَمَا قَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠] .

[المسألة الثانية] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يَجْرِي مَجْرَى التَّحْقِيرِ وَالتَّقْلِيلِ فَمَا الْمُرَادُ مِنْهُ؟

الْجَوَابُ: الْمُرَادُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمِنَ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فَقَوْلُهُ: «مِنْ» فِي قَوْلِهِ:

مِمَّا كَسَبُوا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا لِلتَّبْعِيضِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ؟

الْجَوَابُ: نَعَمْ. وَلَكِنْ بِحَسَبِ الْوَعْدِ لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْكَسْبُ؟

الْجَوَابُ: الْكَسْبُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ كَسْبَهُ وَمُكْتَسَبَهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرَّ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ فِي الْأَرْبَاحِ: إِنَّهَا كَسْبُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كثير الكسب أو قليل الكسب، لأن لَا يُرَادُ إِلَّا الرِّبْحُ، فَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْخَلْقِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ فِي الْكَلَامِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فَفِيهِ مَسَائِلُ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَرِيعُ فَاعِلٌ مِنَ السُّرْعَةِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: سَرُعَ يَسْرُعُ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِيعٌ والْحِسابِ مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَمَعْنَى الْحِسَابِ فِي اللُّغَةِ الْعَدُّ يُقَالُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حِسَابًا وَحِسْبَةً وَحَسَبًا إِذَا