وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطُّهْرِ وَمِنَ الْحَيْضِ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَخْرُجَ الْمَرْأَةُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِأَيِّهِمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مُدَّةَ الْعِدَّةِ بِالْأَطْهَارِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِالْحِيَضِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةً بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْمُدَّةِ النَّاقِصَةِ أَوْ بِالْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ أَنْ تَتْرُكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ لَا إِلَى بَدَلٍ، / وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَإِذَنْ الِاعْتِدَادُ بِالْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مُدَّةِ الْأَطْهَارِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الِاعْتِدَادُ بِمُدَّةِ الْحَيْضِ وَاجِبًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَطْهَارِ وَالْحِيَضِ إِلَّا أَنَّ فِي الشَّرْعِ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْحَيْضِ، لِمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ صَرْفُ الْأَقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَى الْحَيْضِ أَوْلَى.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَقْرَاءَ حِيَضٌ يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بِكَمَالِهَا لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ يَلْزَمُهَا تَرَبُّصُ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِزَوَالِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ طُهْرٌ يَجْعَلُهَا خَارِجَةً مِنَ الْعِدَّةِ بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ قُرْءًا فَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تُكْمِلُ الْأَقْرَاءَ الثَّلَاثَةَ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَلْيَقَ بِالظَّاهِرِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الحج: ١٩٧] وَالْأَشْهُرُ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ إِنَّا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، وَذَلِكَ هُوَ شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَبَعْضُ ذُو الْحِجَّةِ، فَكَذَا هَاهُنَا جَازَ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَلَى طُهْرَيْنِ وَبَعْضِ طُهْرٍ، أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا تَرَكْنَا الظَّاهِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لِدَلِيلٍ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَتْرُكَ الظَّاهِرَ هَاهُنَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَالثَّانِي: أَنْ فِي الْعِدَّةِ تَرَبُّصًا مُتَّصِلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ مُتَّصِلٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ الْأَشْهُرُ وَقْتُ الْحَجِّ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَأَجَابَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: كَمَا أَنَّ حَمْلَ الْأَقْرَاءِ عَلَى الْأَطْهَارِ يُوجِبُ النُّقْصَانَ عَنِ الثَّلَاثَةِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْحِيَضِ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الطُّهْرِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ فَتَحْصُلُ الزِّيَادَةُ وَعُذْرُهُمْ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ لَأَمَرْنَاهُ بِالطَّلَاقِ فِي آخِرِ الْحَيْضِ حَتَّى تَعْتَدَّ بِأَطْهَارٍ كَامِلَةٍ، وَإِذَا اخْتَصَّ الطَّلَاقُ بِالطَّاهِرِ صَارَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُتَحَمَّلَةً لِلضَّرُورَةِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نَقُولُ: لَمَّا صَارَتِ الْأَقْرَاءُ مُفَسَّرَةً بِالْأَطْهَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ، صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ طُهْرُ الطَّلَاقِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ لِلِاجْتِمَاعِ وَكَمَالُ الِاجْتِمَاعِ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ قُرْءًا تَامًّا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ النُّقْصَانِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْءِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ: أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ إِلَى الشُّهُورِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ فَقَالَ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطَّلَاقِ: ٤] فَأَقَامَ الْأَشْهُرَ مُقَامَ الحيض دون الأطهار وأيضا لما كان الْأَشْهُرُ شُرِعَتْ بَدَلًا عَنِ الْأَقْرَاءِ وَالْبَدَلُ يُعْتَبَرُ بِتَمَامِهَا، فَإِنَّ الْأَشْهُرَ لَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِهَا وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُبْدَلِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ الْكَامِلَةُ هِيَ الْحِيَضَ، / أَمَّا الْأَطْهَارُ فَالْوَاجِبُ فِيهَا قُرْءَانِ وَبَعْضٌ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: لَهُمْ:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ»
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ هِيَ الحيض.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute