للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مَخْلُوقٌ فِي الرَّحِمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرٌ شَرِيفٌ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَيْضِ الَّذِي هُوَ شَيْءٌ فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ وَالْقَذَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مَنْعَهَا عَنْ إِخْفَاءِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا اطِّلَاعَ لِغَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَبِسَبَبِهَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ فِي النِّكَاحِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ هُوَ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ ذِكْرِ الْأَقْرَاءِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْحَمْلِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مَا يُخْلَقُ فِي الرَّحِمِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً، بَلْ هَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَظْلِمُ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْ، تُرِيدُ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَكَ إِيمَانُكَ عَنْ ظُلْمِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى النِّسَاءِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] وَقَالَ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ جُعِلَ أَمِينًا فِي شَيْءٍ فخان فيه فأمره عند الله شديد.

قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الثَّانِي لِلطَّلَاقِ وَهُوَ الرَّجْعِيَّةُ، وَفِي الْبُعُولَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ بَعْلٍ، كَالْفُحُولَةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْجُدُودَةِ وَالْعُمُومَةِ، وَهَذِهِ الْهَاءُ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا فِي كُلِّ جَمْعٍ بَلْ فِيمَا رَوَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَنِ الْعَرَبِ، فَلَا يُقَالُ فِي كَعْبٍ: كُعُوبَةٌ، وَلَا فِي كَلْبٍ: كِلَابَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْبَعْلِ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ بَعْلَةٌ، كَمَا يُقَالُ لَهَا زَوْجَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ اللُّغَاتِ، وَزَوْجٌ فِي أَفْصَحِ اللُّغَاتِ فَهُمَا بَعْلَانِ، كَمَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ، وَأَصْلُ الْبَعْلِ السَّيِّدُ الْمَالِكُ فِيمَا قِيلَ، يُقَالُ: مَنْ بَعْلُ هَذِهِ النَّاقَةِ؟ كَمَا يُقَالُ: مَنْ رَبُّهَا، وَبَعْلٌ اسْمُ صَنَمٍ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُ رَبًّا، وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَدْعُونَ أَزْوَاجَهُنَّ بِالسُّؤْدَدِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبُعُولَةَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: بَعَلَ الرَّجُلُ يَبْعَلُ بُعُولَةً، إِذَا صَارَ بَعْلًا، وَبَاعَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا،

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: «إنها أيام أكل وشرب وبعال»

وامرأته حَسَنَةُ الْبَعْلِ إِذَا كَانَتْ تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِهَا، وَمِنْهُ

الْحَدِيثُ «إِذَا أَحْسَنْتُنَّ بِبَعْلِ أَزْوَاجِكُنَّ»

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَهْلُ بُعُولَتِهِنَّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ فَالْمَعْنَى: أَحَقُّ بِرَجْعَتِهِنَّ فِي مُدَّةِ ذَلِكَ التَّرَبُّصِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: أَحَقُّ مَعَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِ الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ.

الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ كَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: فَإِنَّهُنَّ إِنْ كَتَمْنَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ زَوْجٌ آخَرُ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِرَدِّهِنَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي حَقٌّ فِي الظَّاهِرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ عُلِمَ خِلَافُهُ فَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَحَقُّ مِنَ الزَّوْجِ الْآخَرِ فِي الْعِدَّةِ الثَّانِي: إِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَهَا فِي مُضِيِّ الْعِدَّةِ حَقُّ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ فَلَمَّا كَانَ لَهُنَّ هَذَا الْحَقُّ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهُمْ أَنْ يُبْطِلُوا بِسَبَبِ الرَّجْعَةِ مَا هُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِدَّةِ.