مُرَجِّحًا لِوُجُودِهَا عَلَى عَدَمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْمَحْسُوسَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِذَاتِهِ، قَضَى الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى مُرَجِّحٍ يُرَجِّحُ وَجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ كَوْنُهُ مُرَجِّحًا وَمُؤَثِّرًا، ثُمَّ نَقُولُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِمَّا أَنْ يُرَجِّحَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَدَامَ الْعَالِمُ بِدَوَامِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَبَقِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا رُجِّحَ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ وَكَوْنُهُ مُرَجِّحًا عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ، لَيْسَ إِلَّا كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُرَجِّحًا، هُوَ كَوْنُهُ/ قَادِرًا. ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ هَذَا نَسْتَدِلُّ بِكَوْنِ أَفْعَالِهِ مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا، ثُمَّ إِنَّا إِذَا عَلِمْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَالِمًا، وَعَلِمْنَا أَنَّ الْعَالِمَ الْقَادِرَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا حَيًّا، عَلِمْنَا مِنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا، كَوْنَهُ حَيًّا. فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ وَاقِعًا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ الْعِلْمُ بِهَا عُلُومٌ مُتَرَتَّبَةٌ يُسْتَفَادُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه تَعَالَى، وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ قَدْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدُ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ، فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقة وَالْإِضَافِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ إِلَى تَكْوِينِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَلَوْلَاهُ لَبَقِيَ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَالسَّلْبِ الصِّرْفِ، فاللَّه سُبْحَانَهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَكَمَالُ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ حَاصِلٌ بِجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَكُلُّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ وَشَرَفٍ، فَهُوَ لَهُ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ وَفِي ذَاتِهِ، وَلِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ، وَالَّذِي لِغَيْرِهِ مِنْ ذَاتِهِ، فَهُوَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالْعَدَمُ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْبَيِّنِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، وَالصِّفَاتِ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ، فَهُوَ غَرَقٌ فِي بَحْرِ الْفَنَاءِ وَالنُّقْصَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّه لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، وَالصِّفَاتِ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، فَيَجِبُ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالْحُسْنِ وَالْكَمَالِ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى صِفَةَ كَمَالٍ وَجَلَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّه سُبْحَانَهُ، وَعِنْدَ هَذَا نُقِلَ عَنْ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُطْلِقُ عَلَى ذَاتِ اللَّه تَعَالَى اسْمَ الشَّيْءِ.
قَالَ: لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَقَعُ عَلَى أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرِهَا حَقَارَةً وَأَبْعَدِهَا عَنْ دَرَجَاتِ الشَّرَفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى شَرَفًا وَرُتْبَةً وَجَلَالَةً.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى الشَّرَفِ وَالْكَمَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَامْتَنَعَ تَسْمِيَةُ اللَّه بِكَوْنِهِ شَيْئًا. قَالَ وَمَعَاذَ اللَّه أَنْ يَكُونَ هَذَا نِزَاعًا فِي كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَذَاتًا وَمَوْجُودًا، إِنَّمَا النِّزَاعُ وَقَعَ فِي مَحْضِ اللَّفْظِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا قَوْلُنَا إِنَّهُ مُنْشِئُ الْأَشْيَاءِ، فَهُوَ اسْمٌ يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالْجَلَالَ وَالشَّرَفَ، فَكَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى اللَّه حَقًّا، ثُمَّ أَكَّدَ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تعلى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] مَعْنَاهُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ مِثْلٌ لِمِثْلِ/ نَفْسِهِ. فَلَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ الْقُرْآنِيُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ مِثْلِ اللَّه لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَانَ هَذَا تَصْرِيحًا بِأَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يقول «الكاف» في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ حَرْفٌ زَائِدٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّ حَمْلَ كَلَامِ اللَّه عَلَى اللَّغْوِ وَالْعَبَثِ وَعَدَمِ الْفَائِدَةِ بعيد.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute