للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّاسِ: مَنْ كَانَ فِي عَمَلِ اللَّه كَانَ اللَّه فِي عَمَلِهِ. وَثَالِثُهَا: الْمَعْنَى أَنَّا لَمَّا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَنْتَفِعُ بِصَلَاتِكَ. فعبر عن هذا المعنى بقوله: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً بَلْ نَحْنُ نَرْزُقُكَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهِ النِّعَمِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ،

قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيقٌ أَوْ شِدَّةٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ»

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ التَّكَسُّبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النُّورِ: ٣٧] ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فَالْمُرَادُ وَالْعَاقِبَةُ الْجَمِيلَةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى يَعْنِي تَقْوَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَتَهُمْ، فَكَأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: ١٣٠] وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أُوهِمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُمُ الْإِيمَانَ مِنْ غَيْرِ آيَةٍ، وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥] وَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ما في القرآن إذ وَافَقَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالدِّرَاسَةِ وَالتَّعَلُّمِ وَمَا رَأَى أُسْتَاذًا الْبَتَّةَ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ بَيِّنَةَ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى مَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنَبُّوتِهِ وَبَعْثَتِهِ. وَثَالِثُهَا: ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقَفَّالُ [أَنَّ] الْمَعْنَى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْآيَاتِ وَكَفَرُوا بِهَا كَيْفَ عَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فَمَاذَا يُؤَمِّنُهُمْ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ فِي سُؤَالِ الْآيَاتِ كَحَالِ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا أَتَاهُمْ هَذَا الْبَيَانُ فِي الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ: بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَاحَ لَهُمْ كُلَّ عُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي التَّكْلِيفِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وَالْمُرَادُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَيَكُونَ عُذْرًا لَهُمْ، فَأَمَّا الْآنُ وَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ وَبَيَّنَّا عَلَى لِسَانِكَ لَهُمْ مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ فَلَا حُجَّةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. ومعنى: مِنْ قَبْلِهِ يَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِهِ وَيَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا معنى قوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ ...

لَقالُوا [طه: ١٣٤] وَالْهَالِكُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ قُلْنَا الْمَعْنَى لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ:

مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ،

رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَحْتَجُّ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ يَقُولُ لَمْ يَأْتِنِي رَسُولٌ وَإِلَّا كُنْتُ أَطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ. وَتَلَا قَوْلَهُ: لَوْلا/ أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا

وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ يَقُولُ لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَنْتُفِعُ بِهِ، وَيَقُولُ الصَّبِيُّ: كُنْتُ صَغِيرًا لَا أَعْقِلُ فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوهَا فَيَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ شَقِيٌّ وَيَبْقَى مَنْ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَعِيدٌ، فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ: «عَصَيْتُمُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ بِرُسُلِي لَوْ أَتَوْكُمْ»

وَالْقَاضِي طَعَنَ فِي الْخَبَرِ وَقَالَ: لَا يَحْسُنُ الْعِقَابُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ اللُّطْفِ إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمُكَلَّفِينَ مَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَلَّا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَا لِنُؤْمِنَ؟ وَهَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتْبَعَ آيَاتِكَ؟ وإن كان في الْمَعْلُومُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ، فَصَحَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ إِذَا أَطَاعُوهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ الِاحْتِجَاجَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُهُ: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الْجَبْرِ مِنْ أَنَّ مَا هُوَ جَوْرٌ مِنَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>