للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ. مَنْ يَكُونُ خَالِقًا لَنَا وَمُوجِدًا لِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا. فَنَقُولُ:

أُفُولُ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا عَاجِزَةً عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِبَادَتُهَا وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:

أَنَّ أُفُولَهَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا. وَحُدُوثُهَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهَا إِلَى فَاعِلٍ قَدِيمٍ قَادِرٍ وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَادِرِيَّةُ ذَلِكَ الْقَادِرِ أَزَلِيَّةً. وَإِلَّا لَافْتَقَرَتْ قَادِرِيَّتُهُ إِلَى قَادِرٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَادِرِيَّتَهُ أَزَلِيَّةٌ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ إِنَّمَا صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِاعْتِبَارِ إِمْكَانِهِ وَالْإِمْكَانُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. فَثَبَتَ أَنَّ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ بَعْضُ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورًا للَّه تَعَالَى فَهُوَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ أَنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً للَّه تَعَالَى.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا صِحَّةَ هذه المقامات بالدلائل اليقينة فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كَوْنَ الْكَوَاكِبِ آفِلَةً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُحْدَثَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَيْضًا فَكَوْنُهَا فِي نَفْسِهَا مُحْدَثَةً يُوجِبُ الْقَوْلَ بِامْتِنَاعِ كَوْنِهَا قَادِرَةً عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَدَلَائِلُ الْقُرْآنِ إِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهَا أُصُولُ الْمُقَدِّمَاتِ، فَأَمَّا التَّفْرِيعُ وَالتَّفْصِيلُ، فَذَاكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِعِلْمِ الْجَدَلِ. فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى سبيل الرمز لا جرم اكتفي بذكر هما فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُفُولِهَا عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَحُدُوثِهَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهَا فِي وُجُودِهَا إِلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْفَاعِلُ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَفْلَاكِ مِنْ دُونِ وَاسِطَةِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَبِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ الشَّيْءِ الْأَعْظَمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الشَّيْءِ الْأَضْعَفِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: ٥٧] وَبِقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: ٨١] فَثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ الْإِلَهَ الْأَكْبَرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ، وَعَلَى تَدْبِيرِ الْعَالِمِ الْأَسْفَلِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ وَالْقَمَرِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ كَوْنُ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ مُوجِدَةً وَخَالِقَةً، لَبَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي الْكُلِّ وَحِينَئِذٍ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ أَنَّ خَالِقَهُ هَذَا الْكَوْكَبُ. أَوْ ذَلِكَ الْآخَرُ أَوْ مَجْمُوعُ الْكَوَاكِبِ فَيَبْقَى شَاكًّا فِي مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ. أَمَّا لَوْ عَرَفْنَا الْكُلَّ وَأَسْنَدْنَا الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ وَالتَّدْبِيرَ إِلَى خَالِقِ الْكُلِّ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُنَا مَعْرِفَةُ الْخَالِقِ وَالْمُوجِدِ وَيُمْكِنُنَا الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا قَدِيمَةً فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا آلِهَةً لِهَذَا الْعَالَمِ وَأَرْبَابًا لِلْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ. واللَّه أَعْلَمُ. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِنَهَارٍ وَلَيْلٍ، وَكَانَ أُفُولُ الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ حَاصِلًا فِي اللَّيْلِ السَّابِقِ وَالنَّهَارِ السَّابِقِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَبْقَى لِلْأُفُولِ الْحَاصِلِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مزيد فائدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>