للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقَالَ أَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ جُزْءٌ وَاحِدٌ فقط؟ ثم انه حصل هاهنا وَهُنَاكَ وَأَيْضًا حَصَلَ مَوْصُوفًا بِالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَجَمِيعِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ فَالَّذِي يَفْنَى إِنَّمَا هُوَ حُصُولُهُ هُنَاكَ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ فَنَى فِي نَفْسِهِ فَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَرَى بَعْضَ الْأَجْسَامِ مُتَحَرِّكًا وَبَعْضَهَا سَاكِنًا وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لَا يَجْتَمِعَانِ. فَنَقُولُ: إِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لَا يَجْتَمِعَانِ لِاعْتِقَادِنَا أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَحْصُلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَيِّزَيْنِ فَإِذَا رَأَيْنَا أَنَّ السَّاكِنَ بَقِيَ هُنَا وَأَنَّ الْمُتَحَرِّكَ لَيْسَ هُنَا قَضَيْنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ غَيْرُ السَّاكِنِ. وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ كَوْنُ الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ حَاصِلَةً فِي حَيِّزَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يَمْتَنِعْ كَوْنُ الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ مُتَحَرِّكَةً سَاكِنَةً مَعًا، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ بِسَبَبِ السُّكُونِ بَقِيَ هُنَا وَبِسَبَبِ الْحَرَكَةِ حَصَلَ فِي الْحَيِّزِ الْآخَرِ إِلَّا أَنَّا لَمَّا جَوَّزْنَا أَنْ تَحْصُلَ الذَّاتُ الْوَاحِدَةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَيِّزَيْنِ مَعًا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ السَّاكِنَةُ هِيَ عَيْنَ الذَّاتِ الْمُتَحَرِّكَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَمْتَلِئُ الْعَرْشُ مِنْهُ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: الْعَرْشُ فِي نَفْسِهِ جوهر فرد وجزء لا يتجزى وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ فِي كُلِّ تِلْكَ الْأَحْيَازِ وَحَصَلَ مِنْهُ كُلُّ الْعَرْشِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إِلَى فَتْحِ بَابِ الْجَهَالَاتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: ١٧] فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ فِي الْعَرْشِ لَكَانَ حَامِلُ الْعَرْشِ حَامِلًا لِلْإِلَهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مَحْمُولًا حَامِلًا وَمَحْفُوظًا حَافِظًا وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [مُحَمَّدٍ: ٣٨] حَكَمَ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى غَنِيًّا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ.

وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَلَبَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ تَعَالَى مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَزِدْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذِكْرِ صِفَةِ الْخَلَّاقِيَّةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] فَفِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا/ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الدخان: ٧] وَفِي الثَّانِيَةِ قَالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٦] وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٨] وَكُلُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلَّاقِيَّةِ وَأَمَّا فِرْعَوْنُ لعنه اللَّه فانه قال: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [غَافِرٍ: ٣٦ ٣٧] فَطَلَبَ الْإِلَهَ فِي السَّمَاءِ فَعَلِمْنَا أَنَّ وَصْفَ الْإِلَهِ بِالْخَلَّاقِيَّةِ وَعَدَمَ وَصْفِهِ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ دِينُ مُوسَى وَسَائِرِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَمِيعُ وَصْفِهِ تَعَالَى بِكَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ دِينُ فِرْعَوْنَ وَإِخْوَانِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَكَلِمَةُ «ثُمَّ» لِلتَّرَاخِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ تَخْلِيقِ السموات وَالْأَرْضِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ الِاسْتِقْرَارَ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ بَلْ كَانَ مُعْوَجًّا مُضْطَرِبًا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ يُوجِبُ وَصْفَهُ بِصِفَاتِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ تَارَةً وَالسُّكُونِ أُخْرَى وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَسَادِسُهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ إِنَّمَا طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِكَوْنِهَا آفِلَةً غَارِبَةً فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ جِسْمًا لَكَانَ أَبَدًا غَارِبًا آفِلًا وَكَانَ مُنْتَقِلًا مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالِاعْوِجَاجِ إِلَى الِاسْتِوَاءِ وَالسُّكُونِ وَالِاسْتِقْرَارِ فَكُلُّ مَا جَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَعْنًا فِي إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ يَكُونُ حَاصِلًا فِي إِلَهِ الْعَالَمِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِإِلَهِيَّتِهِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ شَيْئًا وَبَعْدَهُ شَيْئًا آخَرَ. أَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَلْقَ السموات وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَأَشْيَاءُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>