للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْوَعِيدِ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُرْفِ وَإِهْمَالُ الْوَعْدِ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُرْفِ، فَكَانَ صَرْفُ التَّأْوِيلِ إِلَى الْوَعِيدِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْوَعْدِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى غَافِرًا غَفُورًا غَفَّارًا وَأَنَّ لَهُ الْغُفْرَانَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ كَرِيمٌ، وَأَنَّ لَهُ الْعَفْوَ وَالْإِحْسَانَ وَالْفَضْلَ وَالْإِفْضَالَ، وَالْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَكِّدُ جَانِبَ الْوَعْدِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بَعِيدٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ وَالْعَفْوِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ رُجْحَانَ جَانِبِ الْوَعْدِ عَلَى جَانِبِ الْوَعِيدِ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ أَتَى بِمَا هُوَ أَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا هُوَ أَقْبَحُ الْقَبَائِحِ وَهُوَ الْكُفْرُ، بَلْ أَتَى بِالشَّرِّ الَّذِي هُوَ فِي طَبَقَةِ الْقَبَائِحِ لَيْسَ فِي الْغَايَةِ وَالسَّيِّدُ الَّذِي لَهُ عَبْدٌ ثُمَّ أَتَى عَبْدُهُ بِأَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وأتى بمعصية متوسطة فلو رجع الْمَوْلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ الْمُتَوَسِّطَةَ عَلَى الطَّاعَةِ الْعَظِيمَةِ لعد ذلك السيد لئيماً مؤذياً فكذا هاهنا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ ثَبَتَ أَنَّ الرُّجْحَانَ لِجَانِبِ الْوَعْدِ. وَعَاشِرُهَا: قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: إِلَهِي إِذَا كَانَ تَوْحِيدُ سَاعَةٍ يَهْدِمُ كُفْرَ خَمْسِينَ سَنَةٍ فَتَوْحِيدُ خَمْسِينَ سَنَةٍ كَيْفَ لَا يَهْدِمُ مَعْصِيَةَ سَاعَةٍ! إِلَهِي لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ لَا يَنْفَعُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ كَانَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَضُرُّ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَإِلَّا فَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْإِيمَانِ! فَإِنْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ رَجَاءِ الْعَفْوِ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَا قَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَلَا عَلَى الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَلَوْ لَمْ تَحْمِلْهُ عَلَى الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَزِمَ تَعْطِيلُ الْآيَةِ، أَمَّا لَوْ خَصَّصْنَا عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ بِمَنْ يَسْتَحِلُّهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِلَّا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّخْصِيصَ أَهْوَنُ مِنَ التَّعْطِيلِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوَعِيدِ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: هُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يُلْعَنُ وَيُحَدُّ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ وَالْعَذَابِ وَأَنَّهُ أَهْلُ الْخِزْيِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَإِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ اسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ جَانِبُ الْوَعِيدِ رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الْوَعْدِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ يُلْعَنُ، فَالْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النِّسَاءِ: ٩٣] وَكَذَا قَوْلُهُ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: ٤٤] وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: ٣٨] وَأَمَّا أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى سَبِيلِ الْعَذَابِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النُّورِ: ٢] ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْخِزْيِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] . وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْفَاسِقِ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ وَالذَّمِّ، وَمَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُمَا دَائِمًا وَمَتَى اسْتَحَقَّهُمَا دَائِمًا امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَنَافِيَانِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِهِمَا مُحَالٌ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ ثَبَتَ أَنْ جَانِبَ الْوَعِيدِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْوَعْدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ آيَاتِ الْوَعْدِ عَامَّةٌ وَآيَاتِ الْوَعِيدِ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّاسَ جُبِلُوا عَلَى الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ فَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ أَشَدَّ، فَكَانَ جَانِبُ الْوَعِيدِ أَوْلَى، قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ/ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: كَمَا وُجِدَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُلْعَنُونَ وَيُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَعَاصِيهِمْ كَذَلِكَ أَيْضًا وُجِدَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَظَّمُونَ وَيُكْرَمُونَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: ٥٤] ، فَلَيْسَ تَرْجِيحُ آيَاتِ الْوَعِيدِ فِي

الْآخِرَةِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يذمون وَيُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا بِأَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ آيَاتِ الْوَعْدِ فِي الْآخِرَةِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَظَّمُونَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا. الثَّانِي: فَكَمَا أن