كانت مدينة صور للخلفاء العلويين بمصر، ولم تزل كذلك إلى سنة ست وخمسمائة، وكان الفرنج قد حصروها، وضيقوا عليها، ونهبوا بلدها غير مرة، فتجهز ملك الفرنج، وجمع عساكره ليسير إلى صور، فخافهم أهل صور، فأرسلوا إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يطلبون منه أن يرسل إليهم أميراً من عنده يتولاهم ويحميهم، ويكون البلد له، وقالوا له: إن أرسلت إلينا والياً، وعسكراً، وإلا سلمنا البلد إلى الفرنج، فسير إليهم عسكراً، وجعل عندهم والياً اسمه مسعود، وكان شهماً، شجاعاً، عارفاً بالحرب ومكايدها، وأمده بعسكر، وسير إليهم ميرة ومالاً فرقه فيهم وطابت نفوس أهل البلد، ولم تغير الخطبة للآمر، صاحب مصر، ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرفه صورة الحال، ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها، ويذب عنها، سلمتها إليه، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة. فشكره الأفضل على ذلك، وأثنى عليه، وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولاً، وسيره إلى صور، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة وخمسمائة، بعد قتل الأفضل، فسُير إليها أسطول، على جاري العادة، وأمروا المقدم على الأسطول أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين، ويقبض عليه، ويتسلم البلد منه. وكان السبب في ذلك: أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، بما يعتمده من مخالفتهم، والإضرار بهم، ففعلوا ذلك، وسار الأسطول فأرسى عند صور، فخرج مسعود إليه للسلام على المقدم عليه، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقدم اعتقله، ونزل البلد، واستولى عليه، وعاد الأسطول إلى مصر، وفيه الأمير مسعود، فأكرم وأحسن إليه، وأعيد إلى دمشق، وأما الوالي من قبل المصريين فإنه طيب قلوب الناس، وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود، فأحسن طغتكين الجواب، وبذل من نفسه المساعدة، ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها، وحدثوا نفوسهم بملكها، وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها وحصرها، فسمع الوالي بالخبر، فعلم أنه لا قوة له، ولا طاقة على دفع الفرنج عنها، لقلة من بها من الجند والميرة، فأرسل إلى الآمر بذلك، فرأى أن يرد ولاية صور إلى طغتكين، صاحب دمشق، فأرسل إليه بذلك، فملك صور، ورتب بها من الجند وغيرهم ما ظن فيه كفاية، وسار الفرنج إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة، وضيقوا عليهم، ولازموا القتال، فقلت الأقوات، وسئم من بها القتال، وضعفت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرب منهم، ويذب عن البلد، ولعل الفرنج إذا رأوا قربه منهم رحلوا، فلم يتحركوا، ولزموا الحصار، فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجدهم، فلم ينجدوه، وتمادت الأيام، وأشرف أهلها على الهلاك، فراسل حينئذ طغتكين، صاحب دمشق، وقرر الأمر على أن يسلم المدينة إليهم، ويمكنوا من بها من الجند والرعية من الخروج منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها، فاستقرت القاعدة على ذلك، وفتحت أبواب البلد، وملكه الفرنج، وفارقه أهله، وتفرقوا في البلاد، وحملوا ما أطاقوا، وتركوا ما عجزوا عنه، ولم يعرض الفرنج لأحد منهم، ولم يبق إلا الضعيف عجز عن الحركة، وملك الفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وكان فتحه وهناً عظيماً على المسلمين، فإنه من أحصن البلاد وأمنعها.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً