في المحرم حاصر صلاح الدين الحصن لكنه رآه منيعا فكان رحيله عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلاً ونهاراً بالحجارة والسهام، وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم، من أول السنة، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، ثم لما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد؛ فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سراً من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين، فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلاً من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيداً، فلقي رجلاً من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم، فأخذهم، وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قولهم وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة، لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور، واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية، سوى القصير.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً