تقدم الأفشين حتى شارف الموضع الذي كانت به الوقعة في العام الماضي، فاختار ثلاثة أجبل كان عليها حصون فخربت، فسد الطريق إلى تلك الجبال، حتى صارت كالحصون، وأمر بحفر خندق على كل طريق وراء تلك الحجارة، وكان جماعة من الخرمية يأتون إلى قرب خندق الأفشين فيصيحون، فلم يترك الأفشين أحداً يخرج إليهم، فعلوا ذلك ثلاثة أيام؛ ثم إن الأفشين كمن لهم كمينا فإذا جاؤوا ثاروا عليهم، فهربوا ولم يعودوا. وعبأ الأفشين أصحابه، وأمر كلاً منهم بلزوم موضعه، وكان إذا أراد أن يتقدم إلى المكان الذي كانت به الوقعة عام أول، خلف بخارااخذاه على رأس العقبة في ألف فارس، وستمائة راجل، يحفظون الطريق لئلا يأخذه الخرمية عليهم. وكان بابك إذا أحس بمجيئهم وجه جمعاً من أصحابه، فيكمنون في واد تحت تلك العقبة، تحت بخارى اخذاه، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان كمين بابك، فلم يعلم بهم، وكان بابك يخرج عسكره فيقف بإزاء هذه الكراديس، لئلا يتقدم منهم أحد إلى باب البذ. وكان يفرق عساكره كمينا ولم يبق إلا في نفر يسير. فصارت مناوشة بين بعض الخرمية وبعض جيش الأفشين كان من سببها تحرك الكمناء من الخرمية، فقال الأفشين: الحمد لله الذي بين مواضع هؤلاء، فأقام الأفشين بخندقه أياما فشكا المتطوعة إليه ضيق العلوفة، فوعد الأفشين الناس ليوم ذكره لهم، وأمر الناس بالتجهز وحمل المال والزاد والماء، فاشتبكت الحرب على الباب طويلاً ففتحت الخرمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحوهم عن الباب وشدوا على المتطوعة من الناحية الأخرى، فطرحوهم عن السور، ورموهم بالصخر، وأثروا فيهم، وضعفوا عن الحرب، وأيس الناس من الفتح تلك السنة وانصرف أكثر المطوعة. ثم إن الأفشين تجهز بعد جمعتين، فلما كان جوف الليل بعث الرجالة الناشبة، وهم ألف رجل، إذا رأوا أعلام الأفشين ورأوا الوقعة انحدروا من فوق الجبل، ورموا بالنشاب والصخر على الخرمية، وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحركوا حتى يأتيهم خبره. فلما بدأت الحرب وثب كمين بابك ببشير التركي والفراغنة، فحاربوهم، وسمع أهل العسكر صيحتهم، فأرادوا الحركة، فأمر الأفشين منادياً ينادي لا يتحركن أحد، فسكنوا ولما سمع الرجال الذين كان سيرهم حتى صاروا في أعلى الجيل ضجة العسكر ركبوا الأعلام على الرماح، فنظر الناس إلى الأعلام تنحدر من الجبل على خيل آذين، فوجه آذين إليهم بعض أصحابه. وحمل جعفر وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليه، فحملوا عليه حملة منكرة، فوجه الأفشين الفعلة يطمون تلك الآبار، ففعلوا وحمل الناس عليهم حملة شديدة. وكان آذين قد جعل فوق الجبل عجلاً عليها صخر، فلما حمل الناس عليه دفع تلك العجل عليهم، فأفرج الناس منها حتى تدحرجت، ثم حمل الناس من كل وجه، فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم خرج من طرف البذ، مما يلي الأفشين، فأقبل نحوه، فقيل للأفشين: إن هذا بابك يريدك، فتقدم إليه، حتى سمع كلامه، وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت هذا عليك، وهو لك مبذول متى شئت، فقال: قد شئت الآن فجاء رسول الأفشين ليرد الناس، فقيل له إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ، وصعدوا بها القصور، فركب وصاح بالناس، فدخل، ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك، وكان قد كمن في قصوره، وهي أربعة، ستمائة رجل، فخرجوا على الناس، فقاتلوهم، ومر بابك، حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر، واشتغل الأفشين ومن معه بالحرب على أبواب القصور، فأحضر النفاطين فأحرقوها وهدم الناس القصور، فقتلوا الخرمية عن آخرهم، وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاته، وبقي هناك حي أدركه المساء، فأمر الناس بالانصراف، فرجعوا إلى الخندق بروذ الروذ. وأما بابك فإنه سار فيمن معه، وكانوا قد عادوا إلى البذ، بعد رجوع الأفشين، فأخذوا ما أمكنهم من الطعام والأموال، ولما كان الغد رجع الأفشين إلى البذ، وأمر بهدم القصور وإحراقها فلم يدع منها بيتا وجاءت جواسيس الأفشين إليه فأعلموه بموضع بابك، فوجه الأفشين إلى كل موضع فيه طريق إلى الوادي جماعة من أصحابه يحفظونه، وورد كتاب المعتصم فيه أمان بابك، وقعد بابك في موضعه فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زادهن وخرج من بعض تلك الطرق، وساروا يريدون أرمينية، فرآهم الحراس، فلما رأى بابك العساكر ركب هو ومن معه، فنجا هو، وأخذ معاوية، وأم بابك والمرأة الأخرى، فأرسلهم أبو الساج إلى الأفشين. وسار بابك في جبال أرمينية مستخفيا فبينما بابك وابن سنباط يتصيدان إذ خرج عليهما أبو سعيد وبورماره في أصحابهما وعلى بابك دراعة بيضاء، فأخذوه وساروا به إلى الأفشين، فأدخله الأفشين بيتا ووكل به من يحفظه، فحبسه مع أخيه، وكتب إلى المعتصم بذلك، فأمره بالقدوم بهما عليه. وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال، وكان الأفشين قد أخذ نساء كثيرة وصبياناً كثيراً ذكروا أن بابك أسرهم، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر بهم فجعلوا في حظيرة كبيرة، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائكم، فكل من جاء يعرف امرأة، أوصبيا أو جارية، وأقام شاهدين أخذه، فأخذ الناس منهم خلقاً كثيرا وبقي كثير منهم.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً