بعد أنْ تولَّى أمر الدولة الموحدية "أبو محمد العادل بن أبي يوسف يعقوب المنصور" سنة (٦٢١ هـ = ١٢٢٤م) عهد بولاية إفريقية إلى أبي محمد عبدالله بن عبدالواحد بن أبي حفص، وكان في صحبته أخوه أبو زكريا، وقام الوالي الجديد بإعادة الهدوء والاستقرار بعد أن عكَّرت صفوها الفتن والثورات، وقام بحملات على الخارجين على سلطان الدولة، وما كادت الأمور تستقر حتى قفز على منصب الخلافة الموحدية أبو العلاء إدريس المأمون سنة (٦٢٤هـ = ١٢٢٧م) بعد ثورة قادها ضد أخيه أبي محمد العادل، فرفض أبو محمد عبدالله الحفصي بيعته والدخول في طاعته، فما كان من الخليفة الجديد إلا أن كتب بولاية إفريقية إلى أبي زكريا يحيى، فقبلها على الفور وسارع من تونس إلى القيروان، وتغلَّب على أخيه أبي محمد عبدالله، وتولى أمر البلاد سنة (٦٢٥هـ = ١٢٢٨م). وكانت سن أبي زكريا يوم بدأ حكمه سبعا وعشرين سنة، لكن ما أظهره من أول وهلة من براعة ومقدرة كان يدل على ما يتمتع به من نضج سياسي، ومهارة إدارية، وسبق له أن حكم في منطقة إشبيلية بالأندلس، حيث كان واليًا على بعض المقاطعات هناك. وبعد قليل من ولايته خلع أبو زكريا طاعة أبي العلاء إدريس خليفة الموحدين، ولكنه لم يدع لنفسه بالأمر؛ تحسبًا للموحدين الذين كانوا في ولايته، واتخذ تونس عاصمة له، وبدأ في اكتساب محبة أهل إفريقية باتباع سياسة معينة، فأحسن معاملتهم، وخفَّف عنهم أعباء الضرائب، ونظر في أمورهم، وراقب عماله وولاته، واستعان بأهل الخبرة والكفاءة، وقرَّب الفقهاء إليه، فأسلمت له البلاد قيادها ودانت له بالطاعة والولاء. ثم نهض أبو زكريا لإقرار سلطانه وبسط نفوذه في المناطق المجاورة، فزحف بجيشه إلى قسطنطينة بالجزائر، فدخلها دون صعوبة، وخرج أهلها لمبايعته في (شعبان ٦٢٦هـ = ١٢٢٩م)، ثم اتجه إلى بجابة ففتحها ودخلت في سلطانه، وبذلك خرجت الولايتان من سلطان دولة الموحدين، وأصبحتا تابعتين لأبي زكريا، ثم طاف بالنواحي الشرقية من ولايته، واستوثق من طاعة أهلها. وكان ردُّ الخلافة الموحدية على توسعات أبي زكريا على حساب دولتها ضعيفًا للغاية، بل يكاد يكون معدومًا، ولم يستطع الخلفاء الموحدون أن يمنعوا تفكك دولتهم، أو يقضوا على الحركات الانفصالية، فكانت الدولة مشغولة بالفتن والثورات التي تهب في الأندلس، بل في مراكش عاصمة دولتهم. وعاد أبو زكريا الحفصي إلى تونس بعد حملته، وأعلن على رؤوس الملأ استقلاله بالملك، وانقطاع تبعيته للموحِّدين رسميًّا، وبايع لنفسه بيعة عامة سنة (٦٣٤هـ = ١٢٣٦م)، وضرب السكَّة باسمه، وأمر أن يُخطب له باسمه على كل منابر بلاده، ثم بايع لابنه أبي يحيى وليًّا للعهد سنة (٦٣٨هـ = ١٢٤٦م). ثم قام على رأس حملة ضخمة، فدخل تلمسان، وأجبر واليها "يغمراسن" على الدخول في طاعته، والخطبة باسمه، كما أدخل في طاعته القبائل العربية والبربرية في المناطق المحيطة. وهادنه بنو مرين في المغرب الأقصى، وأقيمت الخطبة باسمه في عدد كبير من بلاد الأندلس التي لم تقع في براثن الأسبان، واحتفظت بحريتها واستقلالها. وأصبحت الدولة الحفصية التي قام عليها مرهوبة الجانب، تسعى الدولة الأوروبية إلى كسب وُدِّها، خاصة التي تربطها بها مصالح اقتصادية وسياسية، فعقد مع البندقية، وبيزة، وجنوة معاهدات صداقة، وسلامة. وقد ظلَّ أبو زكريا متوفرا على شؤون الدولة حتى توفي في ٢٥ من جمادى الآخرة من هذه السنة.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً