وصل السلطان بيبرس إلى المدينة النبوية في خامس عشر من ذي القعدة، فلم يقابله جماز ولا مالك أميرا المدينة وفرا منه، ورحل منها في سابع عشريه، وأحرم فدخل مكة في خامس ذي الحجة، وأعطى خواصه جملة من المال ليفرقوها سرا، وفرق كساوي على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس، لا يحجبه أحد ولا يحرسه إلا الله، وهو منفرد يصلي ويطوف ويسعى، وغسل البيت، وصار في وسط الخلائق، وكل من رمى إليه إحرامه غسله وناوله إياه، وجلس على باب البيت، وأخذ بأيدي الناس ليطلعهم إلى البيت، فتعلق بعض العامة بإحرامه ليطلع فقطعه، وكاد يرمي السلطان إلى الأرض، وهو مستشر بجميع ذلك، وعلق كسوة البيت بيده وخواصه، وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين، هذا وقاضي القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق الحنفي مرافقه طول الطريق، يستفتيه ويتفهم منه أمر دينه، ولم يقفل السلطان مع ذلك تدبير الممالك، وكتاب الإنشاء تكتب عنه في المهمات، وكتب إلى صاحب اليمن كتابا ينكر عليه أمورا، ويقول فيه: سطرتها من مكة المشرفة، وقد أخذت طريقها في سبع عشرة خطوة يعني بالخطوة المغزلة ويقول له: الملك هو الذي يجاهد في الله حق جهاده، ويبذل نفسه في الذب عن حوزة الدين، فان كنت ملكا فأخرج التتار، وأحسن السلطان إلى أميري مكة، وهما الأمير نجم الدين أبي نمي والأمير إدريس بن قتادة، وإلى أمير ينبع وأمير خليص وأكابر الحجاز وكتب منشورين لأميري مكة، فطلبا منه نائبا تقوي به أنفسهما، فرتب الأمير شمس الدين مروان نائب أمير جاندار بمكة، يرجع أمرهما إليه ويكون الحل والعقد على يديه، وزاد أميري مكة مالا وغلالا في كل سنة بسبب تسبيل البيت للناس، وزاد أمراء الحجاز إلا جماز ومالك أميرا المدينة، فإنهما انتزحا من بين يديه، وقضى السلطان مناسك الحج وسار من مكة في ثالث عشره، فوصل إلى المدينة في العشرين منه، فبات بها وسار من الغد، فجد في السير ومعه عدة يسيرة حتى وصل إلى الكرك بكرة يوم الخميس سلخه، ولم يعلم أحد بوصوله إلا عند قبر جعفر الطيار بمؤتة، فالتقوه هناك، ودخل السلطان مدينة الكرك وهو لابس عباءة، وقد ركب راحلة، فبات بها ورحل من الغد.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً