ظهر التتر إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين، وكان السبب في ظهورهم أن ملكهم، ويسمى بجنكيزخان، المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسير جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى ليشتروا له ثياباً للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليهم، فقتلهم، وسيّر ما معهم، وكان شيئاً كثيراً، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمنه منهم، وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد، وإن طائفة من التتر أيضاً كانوا قد خرجوا قديماً والبلاد للخطا، فلما ملك خوارزم شاه البلاد بما وراء النهر من الخطا، قتلهم، واستولى هؤلاء التتر على تركستان: كاشغار، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه، فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها، فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكيزخان أرسل جواسيس إلى جنكيزخان لينظر ما هو، وكم مقدار ما معه من الترك، وما يريد أن يعمل، فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم، حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم، وكان جنكيزخان قد سار إلى تركستان، فملك كاشغار، وبلاساغون، وجميع تلك البلاد، وأزال عنها التتر الأولى، فلم يظهر لهم خبر، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وتجهز خوارزم شاه، وسار مبادراً ليسبق خبره ويكسبهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية، وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغنموا أمواله وعادوا، فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخلفيهم، فجدوا السير، فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم، وتصافوا للحرب، واقتتلوا قتالاً لم يسمع بمثله، فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقتل من الطائفتين ما لا يعد، ولم ينهزم أحد منهم، أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية، وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم، وأما الكفار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتد بهم الأمر، حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه رجلاً، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدم على الأرض، حتى صارت الخيل تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال، هذا القتال جميعه مع ابن جنكيزخان ولم يحضر أبوه الوقعة، ولم يشعر بها، فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفاً، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضهم مقابل بعض، فلما أظلم الليل أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضاً، كل منهم سئم القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى ملكهم جنكيزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعد للحصار لعلمه بعجزه، لأن طائفة عسكره لم يقدر خوارزم شاه على أن يظفر بهم، فكيف إذا جاؤوا جميعهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمع الذخائر للامتناع، وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونها، وفي سمرقند خمسين ألفاً، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر واستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً