أما دمشق، فإنه لما قدم عليهم الخبر بأخذ حلب، نودي في الناس بالتحول إلى المدينة والاستعداد للعدو، فاختبط الناس، وعظم ضجيجهم وبكاؤهم، وأخذوا ينتقلون في يوم الأربعاء نصفه من حوالي المدينة إلى داخلها، واجتمع الأعيان للنظر في حفظ المدينة، فقدم في سابع عشر ربيع الأول المنهزمون من حماة، فعظم الخوف، وهم الناس بالجلاء، فمنعوا منه، ونودي من سافر نهب، فورد في ثامن عشره الخبر بنزول طائفة من العدو على حماة، فحصنت مدينة دمشق، ووقف الناس على الأسوار، وقد استعدوا، ونصبت المجانيق على القلعة، وشحنت بالزاد، وهم نائب الغيبة بالفرار ولكن العامة ردته ردا قبيحا وهاج الناس وماجوا ونادوا بتسليم البلد من غير قتال، وكل هذا وعسكر مصر لم يخرج منها بعد، ثم في ربيع الآخر بدأ جيش مصر بالخروج منها متوجهين إلى دمشق، هذا وجيش تيمورلنك قد وصل قريبا من حمص فبدأ الناس بالهرب وخاصة أن أهل بعلبك أيضا هربوا لنزول تيمورلنك عليهم، ثم في سادس جمادى الأولى قدم السلطان دمشق بعساكره، وقد وصلت أصحاب تيمورلنك إلى البقاع، وفي يوم السبت الخامس عشر من الشهر هذا نزل تيمورلنك إلى قطا فملأت جيوشه الأرض، وركب طائفة منهم إلى العسكر وقاتلوهم، فخرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء ثامن عشره إلى يلبغا، فكانت وقعة انكسرت ميسرة العسكر، وانهزم أولاد الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران، وجرح جماعة، وحمل تمر حملة منكرة، ليأخذ بها دمشق، فدفعته عساكر السلطان، ونزل كل من العسكرين بمعسكره وبعث تيمور إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه، وأنه هو أيضاً يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في وقعة حلب فأشار تغري بردي ودمرداش وقطلوبغا الكركي في قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم، لا لضعف عسكرهم، فلم يقبلوا وأبوا إلا القتال، ثم أرسل تيمور رسولاً آخر في طلب الصلح، وكرر القول ثانياً، وظهر للأمراء ولجميع العساكر صحة مقالته، وأن ذلك على حقيقته، فأبى الأمراء ذلك، هذا والقتال مستمر بين الفريقين في كل يوم، فلما كان ثاني عشر جمادى الآخرة اختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانية جماعة، منهم الأمير سودون الطيار، وقاني باي العلائي رأس نوبة، وجمق، ومن الخاصكية يشبك العثماني وقمش الحافظي وبرسبغا الدوادار وطرباي في جماعة أخر، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن في الوظائف والإقطاعات والتحكم في الدولة، وتركوا أمر تيمورلنك كأنه لم يكن، وأخذوا في الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم، هذا وتيمورلنك في غاية الاجتهاد في أخذ دمشق وفي عمل الحيلة في ذلك، ثم أعلم بما الأمراء فيه، فقوي أمره واجتهاده، بعد أن كان عزم على الرحيل، واستعد لذلك، فلما كان آخر ليلة الجمعة حادي عشرين جمادى الأولى ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة، وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة عمر يريدون الديار المصرية، وتركوا العساكر والرعية من المسلمين غنماً بلا راع وأما بقية أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لما علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا في الحال في إثره طوائف طوائف يريدون اللحاق بالسلطان، فأخذ غالبهم العشير، وسلبوهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأما العساكر الذين خلفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها، فإنه كان اجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلاً من تيمور، ولما أصبحوا يوم الجمعة، وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب، غلقوا أبواب دمشق، وركبوا أسوار البلد، ونادوا بالجهاد، فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمورلنك بعساكره، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال، وردوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة، وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة، وصار أمرهم في زيادة فأعيا تيمورلنك أمرهم، وعلم أن الأمر يطول عليه، فأخذ في مخادعتهم، وعمل الحيلة في أخذ دمشق منهم، وبينما أهل دمشق في أشد ما يكون من القتال والاجتهاد في تحصين بلدهم، قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمورلنك من تحت السور وصاحا من بعد الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلاً عاقلاً حتى يحدثه الأمير في ذلك، ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمورلنك في الصلح وقع اختيارهم في إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي، فأرخى من سور دمشق إلى الأرض، وتوجه إلى تيمورلنك واجتمع به وعاد إلى دمشق وقد خدعه تيمورلنك بتنميق كلامه، وتلطف معه في القول، وترفق له في الكلام، وقال له: هذه بلدة الأنبياء والصحابة وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عني وعن أولادي، ولولا حنقي من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها وقد صار سودون المذكور في قبضتي وفي أسري؛ وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا، ولم يبق لي الآن غرض إلا العود، ولكن لا بد من أخذ عادتي من التقدمة من الطقزات، وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحاً يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدواب والملابس والتحف تسعة؛ يسمون ذلك طقزات؛ والطقز باللغة التركية: تسعة، وهذه عادة ملوك التتار، فعاد ابن مفلح يثني على تيمورلنك ويحث الناس على عدم القتال وإعطائه ما يريد وكاد يحصل بسبب ذلك فتنة إلى أن جمع ابن مفلح ما يريده تيمورلنك وحمله إليه وعاد هو ومن معه ومعهم فرمان من تيمورلنك لهم، وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم وأهليهم خاصة؛ فقرىء الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق وفتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط، وقدم أميرمن أمراء تيمور، جلس فيه ليحفظ البلد ممن يعبر إليها من عساكر تيمور فمشى ذلك على الشاميين وفرحوا به، لكن تيمورلنك لم يرض بالمال الذي أحضر له بل طلب أضعافه، فحصل من الغلاء في دمشق ما لا يصدق بسبب ذلك، ثم إن الجمعة قد دعي فيها لابن تيمورلنك في الخطبة ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمورلنك إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور، ثم بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمورلنك بدمشق كل ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق، وأعوان تيمورلنك تحاصره أشد حصار، حتى سلمها بعد تسعة وعشرين يوماً وقد رمي عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر، هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلا نفر قليل دون الأربعين نفراً، وطال عليهم الأمر، ويئسوا من النجمة، وطلبوا الأمان، وسلموها بالأمان، وكان تيمورلنك لما اتفق أولاً مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور فخرج إليه ابن مفلح بأموال أهل مصر جميعها فلما صارت كلها إليه وعلم أنه استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من دمشق، فسارعوا أيضاً إلى حمل ذلك كله، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح جليلها وحقيرها، فتتبعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شيء فلما فرغ ذلك كله قبض على ابن مفلح ورفقته، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا فلك ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه، وقسم البلد بينهم، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ونزل كل أمير في قسمه، وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فحينئذ حل بأهل دمشق من البلاء مالا يوصف وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضرب والعصر والإحراق بالنار، والتعليق منكوساً، وغم الأنف بخرقة فيها تراب ناعم، كلما تنفس دخل في أنفه حتى تكاد نفسه تزهق؛ فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعاً، فكان المعاقب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة على الموت، ويقول: ليتني أموت وأستريح مما أنا فيه، ومع هذا تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذب امرأته أو بنته وهي توطأ، وولده وهو يلاط به، فيصرخ هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللواط، وكل ذلك من غير تستر في النهار بحضرة الملأ من الناس، ورأى أهل دمشق أنواعاً من العذاب لم يسمع بمثلها، واستمر هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوماً، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب، فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، فلما علمت أمراء تيمورلنك أنه لم يبق بالمدينة شيء خرجوا إلى تيمورلنك فسألهم هل بقي لكم تعلق في دمشق؟ فقالوا: لا فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق أتباع الأمراء، فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب، ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الحرب وغيرها، وسبوا نساء دمشق وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال، ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد، وكان يوم عاصف الريح، فعم الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها آخرها يوم الجمعة، وكان تيمورلنك - لعنه الله - سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان بعد ما أقام على دمشق ثمانين يوماً، وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق، وزالت أبوابه وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالاً بالية ورسوماً خالية، ولم يبق بها دابة تدب، إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف، فيهم من مات، وفيهم من سيموت من الجوع.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً