جهز الأمير أيتمش المحمدي على عسكر إلى برقة، ومعه فايد وسليمان أمراء العربان لجباية زكاة الأغنام على العادة، فسار في ثلاثمائة فارس من أجناد الحلقة ومعه من الأمراء عدة، وذلك في آخر يوم من المحرم، ونزل بالإسكندرية، ثم سار أيتمش يريد بلاد جعفر بن عمر من برقة، ومسافتها من الإسكندرية على الجادة نحو شهرين، فدله بعض العرب على طريق مسافتها ثلاثة عشر يوماً يفضي به إلى القوم من غير أن يعلموا به، وطلب في نظير دلالته على هذه الطريق مائة دينار وإقطاعات من السلطان بعد عود العسكر إلى القاهرة، فعجل له أيتمش المائة، والتزم له بالإقطاع من السلطان، وكتب له بعشرة أرادب قمحاً لعياله، وأركبه ناقة، وكتم ذلك كله عن العسكر من الأمراء والأجناد والعربان، وسار بمسيره، حتى إذا مضت ثلاث عشرة ليلة أشرف على منازل جعفر بن عمر وعربانه، فدهشوا لرؤية العسكر، وأرسل إليهم أيتمش بسليمان وفايد يدعوهم إلى الطاعة، فأجابوا مع رسلهم: إنا على الطاعة ولكن ما سبب قدوم هذا العسكر على غفلة من غير أن يتقدم لنا به علم؟ فقال لهم أيتمش: حتى يحضر الأمير جعفر ويسمع مرسوم السلطان، وأعادهم، وتقدم أيتمش إلى جميع من معه ألا ينزل أحد عن فرسه طول ليلته، فباتوا على ظهور الخيل، فلما كان الصباح حضر أخو جعفر ليسمع المرسوم، فنهره أيتمش وقال له ولمن معه: ارجعوا إلى جعفر فإن كان طائعاً فليحضر، وإلا فليعرفني، وبعث معه ثلاثة من مقدمي الحلقة، فامتنع جعفر من الحضور، فللحال لبس العسكر السلاح وترتب، وأفرد سليمان وفايد، بمن معهما من العسكر ناحية، واستعد جعفر أيضاً وجمع قومه وحمل بهم على العسكر، فرموهم بالنشاب فلم يبالوا به، ودقوا العسكر برماحهم، وصرعوا الأمير شجاع الدين غرلوا الجوكندار بعدما جرحوه ثلات جراحات، فتداركه أصحابه وأركبوه، وحملوا على العرب فكانت بين الفريقين تسع عشرة وقعة أخرها انهزم العرب إلى بيوتهم، فقاتلهم العسكر عند البيوت ساعة وهزموهم إليها، وكانت تلك البيوت في غاية قصب، فكف العسكر عن الدخول إليهم، ومنعهم أيتمش عن التعرض إلى البيوت وحماها، وأباح لهم ما عداها، فامتدت الأيدي، وأخذت من الجمال والأغنام ما لا ينحصر عدده، وبات العسكر محترسين، وقد أسروا نحو الستمائة رجل سوى من قتل، فلما أصبح الصبح من أيتمش على الأسرى وأطلقهم، وتفقد العسكر فوجد فيه اثنى عشر جريحاً، ولم يقتل غير جندي واحد، فرحل عائداً عن البيوت بأنعام تسد الفضاء، وأبيع معهم فيما بينهم الرأس الغنم بدرهم، والجمل ما بين عشرين إلى ثلاثين درهماً، وسار أيتمش ستة أيام في الطريق التي سلكها والعسكر بالسلاح، خشية من عود العرب إليهم، وبعث أيتمش بالبشارة إلى السلطان، فبعث الأمير سيف الدين ألجاي الساقي لتلقي العسكر بالإسكندرية وإخراج الخمس مما معهم للسلطان، وتفرقة ما بقي فيهم، فخص الجندي ما بين أربعة جمال وخمسة، ومن الغنم ما بين العشرين إلى الثلائين، وحضروا إلى القاهرة، فخلع السلطان على أيتمش، وبعد حضورهم بإسبوع قدم جعفر بن عمر إلى القاهرة، ونزل عند الأمير بكتمر الساقي مستجيراً، فأكرمه ودخل به على السلطان، فاعترف بالخطأ، وسأل العفو، وأن يقرر عليه ما يقوم به، فقبل السلطان قوله وعفا عنه، وخلع عليه ومضى، وصار يحمل القود في كل سنة.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً