[وقعة شقحب بين التتار والمسلمين ومعهم شيخ الإسلام ابن تيمية.]
العام الهجري:٧٠٢
الشهر القمري:رمضان
العام الميلادي:١٣٠٣
تفاصيل الحدث:
في ثامن عشر رجب قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأمير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعضهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس، وكان الناس في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما، وخافوا خوفا شديدا، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، وتحدث الناس بالأراجيف فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى {ومن بغي عليه لينصرنه الله} ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة، وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط فلقوه على عقبة الشحورا في يوم السبت ثاني عشر رمضان ثم ورد عند لقائهم به الخبر بوصول التتار في خمسين ألفاً مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتفقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل، وكان ذلك وقت الظهر من يوم السبت ثاني رمضان المذكور، وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثبتت لهم الميمنة وقاتلوهم أشد قتال ثم قتل من الميمنة الكثير فأدركتهم الأمراء من القلب ومن الميسرة واستمروا في القتال إلى أن كشفوا التتار عن المسلمين واستمر القتال بين التتار والمسلمين إلى أن وقف كل من الطائفتين عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفي نفسه أنه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمين من المسلمين؛ فلما صعد الجبل رأى السهل والوعر كله عساكر، والميسرة السلطانية ثابتة وأعلامها تخفق، فبهت قطلوشاه وتحير واستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم فعند ذلك جمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات السلطان والبوقات قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفاً من التتار، ونزل من الجبل بعد المغرب ومر هارباً، وبات السلطان وسائر عساكره على ظهور الخيل والطبول تضرب، وتلاحق بهم من كان انهزم شيئاً بعد شيء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات؛ وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه، ونزلوا مشاة وفرساناً وقاتلوا العساكر، فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعملوا في قتالهم عملاً عظيماً، فصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضاً بقتال من في جهتهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميراً بعد أمير، وألحت المماليك السلطانية في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف حتى إن بعضهم قتل تحته الثلاثة من الخيل، وما زال الأمراء على ذلك حتى انتصف نهار الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قتل من عسكره نحو ثمانين رجلاً، وجرح الكثير واشتد عطشهم، واتفق أن بعض من كان أسره التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعرفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السحر لمصادمة العساكر السلطانية، وأنهم في شدة من العطش، فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم ويركب الجيش أقفيتهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهار الاثنين، ركب التتار في الرابعة من النهار ونزلوا من الجبل فلم يتعرض لهم أحد وساروا إلى النهر فاقتحموه؛ فعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين وأيدهم الله تعالى بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم ووضعوا فيهم السيف ومروا في أثرهم قتلاً وأسراً إلى وقت العصر، وعادوا إلى السلطان وعرفوه بهذا النصر العظيم، واستمرت الأمراء وبقيت العساكر في طلب التتار إلى القريتين، وقد كلت خيول التتار وضعفت نفوسهم وألقوا أسلحتهم واستسلموا للقتل، والعساكر تقتلهم بغير مدافعة، حتى إن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا عندئذ غنائم، وقتل الواحد من العسكر العشرين من التتار فما فوقها؛ ثم أدركت عربان البلاد التتار وأخذوا في كيدهم: فيجيء منهم الاثنان والثلاثة إلى العدة الكثير من التتار، كأنهم يهدونهم إلى طريق قريبة مفازة، فيوصلونهم إلى البرية ويتركونهم بها فيموتوا عطشاً؛ ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامة دمشق فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً