في يوم الجمعة سادس شهر رجب كان الحريق العظيم بساحل بولاق الذي لم يسمع بمثله في سالف الأعصار إلا قليلاً، بحيث إنه أتى على غالب أملاك بولاق من ساحل النيل إلى خط البوصة التي هي محل دفن أموات أهل بولاق، وعجزت الأمراء والحكام عن إخماده، وكان أمر هذا الحريق أنه لما كان صبيحة يوم الجمعة سادس رجب هبت ريح عظيمة وعظمت حتى اقتلعت الأشجار وألقت بعض مبان، واستمرت في زيادة ونمو إلى وقت صلاة الجمعة؛ فلما كان وقت الزوال أو بعده بقليل احترق ربع الحاج عبيد البرددار بساحل البحر، وذهب الربع في الحريق عن آخره ومات فيه جماعة من الناس، كل ذلك في أقل من ساعة رمل، ثم انتقلت النار إلى ربع القاضي زين الدين أبي بكر بن مزهر وغيره، وهبت الرياح وانتشرت النيران على الأماكن يميناً وشمالا، هذا وحاجب الحجاب وغيره من الأمراء والأعيان وكل أحد من الناس في غاية الاجتهاد في تخميد النار بالطفي والهدم، وهي لا تزداد إلا قوة وانتشاراً على الأماكن، إلى أن وصلت النار إلى ربع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص، وإلى الحواصل التي تحته، وأحرقت أعلاه وأسفله، وذهب فيه من بضائع الناس المخزونة فيه ما لا ينحصر كثرة، وسارت النار إلى الدور والأماكن من كل جهة، هذا وقد حضر الحريق جميع أمراء الدولة بمماليكهم وحواشيهم، شيئاً بعد شيء، والأمر لا يزداد إلا شدة، إلى أن صار الذي حضر من الناس لأجل طفي النار كالمتفرج من عظم النار والعجز عن إخمادها، وصارت النار إذا وقعت بمكان لاتزال به حتى يذهب جميعه، ويضمحل عن آخره، فعند ذلك فطن كل أحد أن النار تسير من دار إلى دار إلى أن تصل إلى القاهرة، لعظم ما شاهدوا من هولها، والريح يتداول هبوبها من أول النهار إلى نصف الليل؛ ولشدة هبوب الريح صارت رياحاً لأنها بقيت تهب من سائر الجهات، فيئس كل من كان له دار تحت الريح، وتحقق زوالها، وشرع في نقل متاعه وأثاثه، واستمر الأمراء والأعيان يشاهدون الحريق، ويطفئون ما قدروا عليه من أطراف المواضع المنفردة؛ وأما الحريق العظيم فلا يستجرىء أحد أن يقربه لعظمه، بل يشاهدونه من بعد، واستمروا على ذلك إلى بعد أذان عشاء الآخرة، ثم ذهب كل واحد إلى داره والنار عمالة إلى نصف الليل، فأخذ أمر الريح في انحطاط، فعند ذلك اجتهد كل أحد في إخمادها، وأقاموا على ذلك أياماً كثيرة، والنار موجودة في الأماكن والجدر والحيطان، والناس تأتي لبولاق أفواجاً للفرجة على هذا الحريق العظيم، فكان عدة ما احترق فيه من الأرباع زيادة على ثلاثين ربعاً، كل ربع يشتمل على مائة سكن وأكثر، وما به من الحوانيت والمخازن ما خلا الدور والأماكن والأفران والحوانيت وغير ذلك، وقد اختلف في سبب هذا الحريق على أقوال كثيرة، منهم من قال: إنها صاعقة نزلت من السماء ومنهم من قال: إن الأرض كأن النار تنبع منها، ثم بعد ذلك بأيام أشيع أن الذي كان يفعل ذلك ويلقي النار في الأماكن هم جماعة من القرمانية ممن أحرق العسكر المصري أمكنتهم لما توجهوا إلى تجريدة ابن قرمان، وشاع القول في أفواه الناس، ثم ظهر للناس بعد ذلك أن الذي صار يحرق من الأمكنة بالقاهرة وغيرها بعد حريق بولاق إنما هو من فعل المماليك الجلبان، لينهبوا ما في بيوت الناس عندما تحرق، فإنه تداول إحراق البيوت أشهراً والله أعلم، ثم تداول الحريق بعد ذلك بخط بولاق والقاهرة، وقوي عند الناس أن الذي يفعل ذلك إنما هو من تركمان ابن قرمان، ثم وقع الحريق أيضاً في شعبان بأماكن كثيرة، وتداول الحريق بالقاهرة وظواهرها، وضر ذلك كثيراً بحال الناس، وقد قوي عندهم أن ذلك من فعل القرمانية والمماليك الأجلاب: يعنون بالقرمانية والأجلاب أن القرمانية إذا فعلوا ذلك مرة ويقع الحريق، فتنهب المماليك الأقمشة وغيرها لما يطلدون الدور المحروقة للطفي، فلما حسن ببال المماليك ذلك صاروا يفعلون ذلك.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً