للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[إعدام الحسين بن منصور الحلاج أشهر غلاة الصوفية.]

العام الهجري:٣٠٩

العام الميلادي:٩٢١

تفاصيل الحدث:

هو الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث، ويقال أبو عبد الله، كان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل فارس ونشأ بواسط، ويقال بتستر، ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري، قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم، وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني، وقال الخطيب: والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله، وإلى الزندقة في عقيدته، فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه، وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، ولهذا دخل على الحلاج الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلال والانحراف، وقد روي من وجه أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان، وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل، وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث - أي أنه من رجال المغيث - ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد، وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الأسرار، ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة، منها شعره في ذلك فمن ذلك قوله: جبلت روحك في روحي كما * يجبل العنبر بالمسك الفنق فإذا مسك شيء مسني * وإذا أنت أنا لا نفترق وقوله: مزجت روحك في روحي كما * تمزج الخمرة بالماء الزلال فإذا مسك شيء مسني * فإذا أنت أنا في كل حال، وقد كان الحلاج يتلون في ملابسه، فتارة يلبس لباس الصوفية وتارة يتجرد في ملابس زرية وقد اتفق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا، قال أبو بكر محمد بن داود الظاهري حين أحضر الحلاج في المرة الأولى قبل وفاة أبي بكر هذا وسئل عنه فقال: إن كان ما أنزل الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم حقا فما يقوله الحلاج باطل، وكان شديدا عليه، وقال أبو بكر الصولي: قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلا يتعاقل، وغبيا يتبالغ، وخبيثا مدعيا، وراغبا يتزهد، وفاجرا يتعبد، قال الخطيب البغدادي وغيره في صفة مقتل الحلاج: كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس، فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقا من الحشم والحجاب في دار السلطان، ومن غلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه. قال: إنه أحيا عدة من الطير، وذكر لعلي بن عيسى أن رجلا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعوا الناس إلى طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود، ووجد عنده سفطا فيه من رجيع الحلاج وعذرته، وبوله وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده، فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فجحد ذلك وكذبهم وقال: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك، وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد، ويكثر أن يقول: سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب، مأذونا لمن يدخل إليه، وكان يسمى نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمد بن أحمد الفارسي، وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق، ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له الدباس، فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرقة والسحر شيئا كثيرا، وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة، من ذلك أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال: قومي إلى الصلاة؟ وإنما كان يريد أن يطأها، وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد البشر لبشر؟ فقال: نعم إله في السماء وإله في الأرض، ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانير كثيرة مبدورة، ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجيء بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه: من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا وجعل ينشد ويتمايل ثم قال: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) [الشورى: ١٨] ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل، قالوا: ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة، ولم يتغير لونه، ويقال إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد، ومنهم من قال: بل جزع عند القتل جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا، فالله أعلم، وقال الخطيب لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس، ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه: لا يهولنكم هذا الأمر، فإني عائد اليكم بعد ثلاثين يوما، ثم قتل فما عاد، وذكر الخطيب أنه قال وهو يضرب لمحمد بن عبد الصمد والي الشرطة: أدع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية، فقال له: قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل، ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوما، وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال: لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول، إني لست به، وإنما القي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتهم، وكانوا بجهلهم يقولون: إنما قتل عدو من أعداء الحلاج، فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال: إن كان هذا الرائي صادقا فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به، كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب. ونودي ببغداد أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع، وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلثمائة ببغداد، ثم نقل ابن خلكان عن إمام الحرمين أنه كان يذمه ويقول إنه اتفق هو والجنابي وابن المقفع على إفساد عقائد الناس، وتفرقوا في البلاد فكان الجنابي في هجر والبحرين، وابن المقفع ببلاد الترك، ودخل الحلاج العراق، فحكم صاحباه عليه بالهلكة لعدم انخداع أهل العراق بالباطل.

(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً

<<  <  ج: ص:  >  >>