كتب بتجريد عسكر دمشق وطرابلس وحماة وحلب ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية لمقاتلتهم على تعديهم طريقهم، وقطعهم الطرقات، ونهبهم حجاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان - صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهبت العساكر لذلك ووافت حلب، فتقدمها الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حلب في ثاني ذي القعدة يريد العمق، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم، ويحذرهم التخلف عن الحضور إلى الطاعة، ويخوفهم بأس العساكر، وإنهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنين على أنفسهم وأموالهم، ومن تخلف كان غنيمة للعساكر، وسار حتى نزل تحت عقبة بغراس، فعرض العساكر، وترك الثقل وتوجه مخفا، وجاوز عقبة بغراس، وترك بها نائبي عينتاب وبغراس بخيالتهما ورجالهما، حفظا للدربند، إلى أن تصل العساكر الشامية، ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد خامس عشره وسار مجدا، فوصل المصيصة عصر نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسر بعد أنْ هدم التركمان بعضه، وقطعوا منه جانبا لا يمنع الاجتياز، وتوقدت بينهم نار الحرب، وعدت العساكر نهر جاهان إلى جانب بلاد سيس، واقتفوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان فأدركوا بعض البيوت، فانتهبوها، فتعلق الرجال بشعف الحبال، ثم حضرت قصاد التركمان - على اختلاف طوائفهم - يسألون الأمان، فأجاب الأمير يلبغا الناصري سؤالهم، وكتب لهم أمانا، ولما أحس الصارم بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفر إلى الجبال التي لا تسلك، ووصلت الأطلاب والثقل إلى المصيصة في سابع عشره، فقدم من الغد ثامن عشره قاصد الأمير طَشبُغا العزي - نائب سيس - بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثره ومعه طائفة من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوته، فانتهبوها، وأمسكوا أولاده وحريمه، ونجا بنفسه، ولحق بالتركمان البياضية مستجيرا بهم، فأجمعت الآراء على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكه، فقدم الخبر من نائب سيس في أخر النهار بأنه استمر في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسكه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسرت العساكر بذلك سروراً زائداً، ورحلت في تاسع عشره تريد سيس، وأحاطت بطائفة من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرا من خيل ومتاع وأثاث ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفرقت جموع التركمان بالجبال ومرت العساكر إلى جهة سيس، وأحضر ابن رمضان، وأخوه قرا محمد، ومن أمسك معهما، فوسطوا، وعاد العسكر يريد المصيصة، وركب الأمير يلبغا الناصري بعسكر حلب، وسلبهم جبلا يسمى صاروجا شام، وهو مكان ضيق حرج وعر، به جبال شوامخ وأودية عظام، مغلقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكاد الراجل يسلكه، فكيف بالفارس وفرسه الموفرين حملا باللبوس وإذا هم بطائفة من التركمان اليراكرية، فجرى بينهم القتال الشديد، فقتل بين الفريقين جماعة، وفقد الأمير يلبغا الناصري، وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية، ثم تراجع الناس وقد فقد منهم طائفة، ووصل الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجأوا إلى مدينة إياس، ثم قدم يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومه، وأقاموا عليها أياما، ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير، فكانت بينهم وقعة لم يمر لهم مثلها، قتل فيها خلق كثير، وانجلت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصري بلاء عظيماً، وارتحل العسكر يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضربت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقة منهم إلى باب الملك، فوقفوا على دربنده ومنعوا عنهم الميرة، فعزت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيول، وكثر الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلا أن الله تداركهم بخفي لطفه، فقدم عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري - حاجب الحجاب بحلب - في عدة من الأمراء، وقد استخدم من أهل حلب ألف راجل من شبان بانقوسا، ودفعوا إليهم مائة درهم كل واحد، وخرج العلماء والصلحاء وغالب الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر، ونودي بالنفير العام، فتبعهم كثير من الرجالة والخيالة، والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب، فقام بمؤنتهم الحاجب ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فملكوه وقتلوا طائفة ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيتهم، ففرح العسكر بذلك فرحاً كبيراً، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب، فكانت سفرة شديدة المشقة، بلوا فيها من كثرة تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالى هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع، ما لا يمكن وصفه.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً