لقد برز مصطلح التطهير العرقي في المجال السياسي فجأة، بدءا من عام ١٩٩٢م، مع اتساع نطاق العمليات الوحشية، التي مارستها القوات والميليشيات الصربية والكرواتية، ضد مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفو. فباسم التطهير العرقي، اجتاح الصرب أراضي البوسنة ومدنها لتنفيذ خطتهم للاستيلاء على أراضي هذه الجمهورية، وطرد المسلمين منها، حتى تكون خالصة فقط للصرب. ومن أجل ذلك، ارتكب الصربيون صنوفاً من أبشع الجرائم، التي لم يشهد لها تاريخ أوروبا مثيلاً. منالقتل والظلم والذعر، والدماء والدمار والاغتصاب ... فقتلوا أكثر من ٣٠٠ ألف شخص من مسلمي البوسنة، وطردوا وشردوا أكثر من ثلاثة ملايين مسلم آخرين، هربوا من المذابح ومعسكرات الاعتقال والتعذيب إلى دول مجاورة، في النمسا والمجر وكرواتيا وسلوفينيا وألمانيا، تاركين أراضيهم وأموالهم وأهاليهم وتاريخهم. كما ثبت اغتصاب الصربيين والكروات لما يزيد على خمسين ألف امرأة وفتاة بوسنية، وهدموا بالمدافع والطائرات وأعمال النسف والتدمير، الكثير من مدن المسلمين وقراهم، مستهدفين أساساً إزالة كل الآثار والمعالم التاريخية، التي تثبت الهوية الإسلامية لهذه البلاد وأهلها، عبر التاريخ. هذا إلى جانب تدمير وتخريب كل ما طالته مدافعهم وأياديهم، من بيوت ومساجد، ومتاحف ومدارس، ومستشفيات وجسور، ومحطات مياه وطاقة كهربائية ومصانع. وقد تكرر ذلك منهم غير مرة. وذبحوا نائب رئيس البوسنة، وهو في عربة مصفحة، ترفع علم الأمم المتحدة. كما بقروا بطون الحوامل من النساء، وقتلوا الأطفال بالرصاص، أو بالحرق، أو بإغراقهم في مياه البحر والأنهار. هذا غير ما ارتكبوه من صنوف التعذيب الوحشية في حق الشباب من الأسرى المسلمين في معسكرات الاعتقال. بل وصل الأمر بالصربيين إلى حرق مدن وقرى بتمامها، بمن فيها من المسلمين، الذين منعهم الصرب من الخروج منها، حتى يموتوا حرقاً، مثل مدن وقرى هرانكو ودوبانيس وستوبتى دول. ناهيك بما فعلوه في العاصمة سيراييفو، حين حاصروها ومنعوا عن سكانها جميع مقومات الحياة، إلى جانب إمطارهم يومياً بآلاف الأطنان من قذائف المدفعية والدبابات، ومنع قوافل الإغاثة الدولية من الوصول إليها، حتى يموت أهلها جوعاً وعطشاً. فقد أصبح كل سكان سيراييفو (٣٠٠ ألف نسمة)، يعتمدون بشكل أساسي على المعونات الإنسانية، التي تقدمها إليهم المفوضية العامة للاجئين، وما يسمح به الصرب من مرور قوافل الإغاثة. فلقد أُدرج جميع سكانها على قوائم المعونة، التي توزع عبر ٧٠ منفذاً للتوزيع، ومن أكبر المدن المسلمة في البوسنة، التي تعرضت لعمليات تطهير عرقي، موستار التي حوصر فيها قرابة ٦٠ ألف مسلم، بواسطة الكروات، بعد أن أجبروا ٣٠ ألف مسلم على الجلاء عنها بالقوة، خلال غارات ليلية، تعرضت لها المناطق المسلمة من المدينة، بواسطة العصابات الكرواتية، التي مارست عمليات التطهير العرقي بلا رحمة. وهو ما شهد به موظفو الأمم المتحدة، الذين منعهم الكروات من إدخال مواد الإغاثة إلى المدينة، كما رَوَوا كيف كان الكروات يجبرون مئات الآلاف من النساء والأطفال والمسنين على السير، عبر جسر يقع في خط إطلاق النار، لكي يصلوا إلى الضفة الشرقية من نهر تيريفا، بصورة بالغة القسوة. أما الرجال والشباب، الذين زجّت بهم السلطات الكرواتية في معسكرات اعتقال، فقد أجبرهم الكروات على العمل في خطوط القتال، في مواجهة نيران القوات المسلحة، بل استخدمهم الكروات أيضاً كدروع بشرية في عملياتهم الحربية ضد المسلمين. هذا في الوقت الذي مارست فيه الحكومة الكرواتية ضغوطاً متزايدة على مئات الآلاف من اللاجئين المسلمين، لكي يهاجروا منها إلى بلدان إسلامية، مثل باكستان وماليزيا. فقد كانت تخرِجهم من معسكرات الإقامة والأماكن الأخرى، التي وجدوا فيها على ساحل الأدرياتيكي، بدعوى أنها مناطق سياحية، لا تصلح للإيواء. ولم تقتصر عمليات التطهير العرقي على المدن الكبرى، مثل سراييفو وموستار، بل كانت أشد عنفاً في مدن مسلمة أخرى، مثل جورازدي في الشرق، التي حوصر فيها ٧٠ ألف مسلم، وماجلاي، وزافيلاديفتش، التي تشكل رؤوس مثلث يقع على بعد ٨٠ كم شمال غربي سراييفو. ويعتبر عزل ماجلاي جزءاً من خطة صربية لإيجاد ممر جنوبي، يشطر البوسنة إلى قسمين، ولربط المناطق التي استولى عليها الصرب في شمال البوسنة مع غربها. وهو ما يؤكد التواطؤ بين صرب البوسنة وكرواتها. ورغم إعلان الأمم المتحدة أن مدينة جورازدي تعتبر إحدى المناطق الآمنة، التي تكفلت الأمم المتحدة بأمن سكانها، فإن الصرب منعوا قوافل الإغاثة من دخولها، ووقع الأمر نفسه بالنسبة إلى مدن أخرى، مثل ترنوفو التي طرد منها ٨٥٠٠ مسلم، ونوفي ساد في وسط البوسنة، وبركو، وتيسانى، ودوبوي، وسيربرنيتشا، التي تحولت إلى مقبرة جماعية، يضم ترابها جثث آلاف المسلمين، الذين قتلهم الصرب جماعات، وليس فرادى، تحت أعين رجال الأمم المتحدة، وهو ما شهد به موظفو الإغاثة الدولية. وكان مفتي يوغوسلافيا السابق، يعقوب فلونسكي، قد صرح بأن خسائر المسلمين، منذ بداية الحرب وحتى نهاية أكتوبر ١٩٩٢م، بلغت ١٤٠ ألف قتيل وتدمير ٧٥٠ مسجداً. وبنهاية أكتوبر ١٩٩٢م، قام الكروات بنزع أسلحة المسلمين، توطئة لطردهم من مدنهم في البوسنة. ومن معالم التطهير العرقي، الذي مارسه الصرب ضد مسلمي البوسنة، محاولة القضاء على كل ما يمتّ إلى الحضارة الإسلامية بصِلة، منها مسجد الباي، وهو من أعظم المساجد في أوروبا. فقد دمرت المدفعية الصربية مآذنه وجزءاً كبيراً من مبانيه. كذلك مسجد الداز في فوكا، إضافة إلى أكثر من ٧٠٠ مسجد أثري ضخم، منها ١٦ مسجداً في بانيالوكا، معقل الصرب، التي كان يقيم فيها ٥٠.٠٠٠ مسلم، طردوا جميعاً بعد أن أزالوا جميع هذه المساجد من فوق سطح الأرض، ومن بينها ما يرجع تاريخه إلى عام ١٦٣٠م. كما أكلت النيران مكتبة سيراييفو العظيمة، التي كانت تضم مخطوطات تاريخية ترجع إلى العهد العثماني. كما تعرضت مكتبة خسرو بك للقصف أكثر من خمسين مرة، والتي تحوي أكثر من ٩٠٠٠ مخطوطة إسلامية، إضافة إلى ٣٠٠٠ وثيقة تركية، وأكثر من ١٠.٠٠٠ كتاب. هذا إضافة إلى معالم تاريخية مهمة تعرضت للتدمير، منها برج الساعة في دوبروفنيك، تلك المدينة التاريخية التي أقيمت على الساحل الدلماسي على الأدرياتيكي، في القرن السابع الميلادي، حيث تسببت قنابل الصرب والكروات بتدمير ٦٥٣ أثراً حضارياً من بين ٨٤٢ أثراً توجد فيها. كما دمَّر الصرب والكروات كذلك جسر موستار العريق، إضافة إلى تخريب ٨٠٠ مركز ثقافي ديني في موستار، منها المركز التاريخي المحيط بالجسر القديم. وقد قام الكروات بتدمير الأبراج الأربعة المحيطة ب ستاري موست لكي يحولوا المدينة بعد ذلك إلى عاصمة الهرسك، بعد طرد المسلمين منها. والغريب في الأمر، أن هذه الآثار التاريخية، لم يمسها سوء طوال الحرب العالمية الثانية. والغريب أيضاً، أن تجري هذه الأعمال التخريبية ضد المعالم الحضارية الإسلامية، في الوقت الذي شهد فيه المراقبون الدوليون، بأن المسلمين حرصوا، أثناء قتالهم، على عدم التعرض لأي كنيسة، سواء كانت أرثوذكسية أو كاثوليكية. ومن صور عمليات التطهير العرقي، التي تسببت بقتل عشرات الألوف من المسلمين وتشريد مئات الألوف منهم، ما حدث في إقليم كوسوفو، الذي يضم أكثرية من المسلمين. وعقب انتخاب بوجار بوكاشي رئيساً لحكومة الإقليم، بدأت عمليات التطهير العرقي، بواسطة الصرب، على أوسع نطاق في كوسوفو، مما دفع بوكاشي إلى تقديم طلب إلى مجلس الأمن، في ٥/ ١/١٩٩٣م، بسرعة إرسال قوة دولية لحفظ السلام وإيقاف عمليات التطهير العرقي، التي تمارسها قوات الصرب في كوسوفو، والتي ستكون الهدف المقبل للصرب، وحيث أصبح الوضع في الإقليم لا يطاق. إذ إن الاعتداءات التي يقوم بها، منذ عامين، رجال الشرطة والجيش والمجموعات الصربية شبه العسكرية وحتى المدنيون الصرب وهم مسلحون أيضا جعلت حوالي عشرة بالمائة من المسلمين الألبان، وهو ما يعادل ٢٠٠ ألف مسلم، يهاجرون من الإقليم. جاء بعد ذلك تقرير البعثة التي شكلها وزراء خارجية مجموعة الدول الأوروبية الإثنتي عشرة، في ديسمبر ١٩٩٢م، برئاسة الإنجليزية آن واربرتون وعضوية الرئيسة السابقة للبرلمان الأوروبي، الفرنسية سيمون فيل، التي قامت بثلاث زيارات إلى يوغوسلافيا السابقة، كانت الأخيرة منها إلى البوسنة والهرسك، في ٢٢ يناير ١٩٩٣م. أما أشكال التطهير العرقي الأخرى، فكثيرة ومتنوعة. منها ما تم الكشف عنه يوم ٣١ أغسطس ١٩٩٢م. كالمقابر الجماعية قرب مدينة موستار البوسنية. إذ أعلن الطبيب الشرعي، عثمان قاديش، أن القوات الكرواتية اكتشفت مقابر جماعية، تضم حوالي مائتي جثة معظمها لمسلمين تم قتلهم بالرصاص على يد ميليشيات صربية غير نظامية، جنوب غرب البوسنة والهرسك. وقد أحصيت ٨٠ جثة متحللة في إحدى ثلاث مقابر جماعية. وأظهرت حالة الجثث أن المذبحة قد ارتكبت قبل شهرين، وأن أعمار الضحايا تراوحت بين ٢٠ و٧٠ عاماً، وأن تسعين بالمائة من الجثث هي لرجال مسلمين مسنين أو في أواسط العمر؛ إضافة إلى جثث بعض النساء. وكان اكتشاف هذه المقابر الجماعية في وادي نيرتيفا، هو أول دليل على عمليات القتل الجماعية، التي قام بها الصربيون ضد المسلمين المطالبين بالاستقلال عن الاتحاد اليوغوسلافي. وذكر، بعدئذ، أنه تم اكتشاف مقبرة جماعية رابعة في زليوشا إحدى القرى البوسنية. لقد استمرت معاناة مسلمي البوسنة والهرسك، اللاجئين في مناطقهم التي وقعت تحت سيطرة الصرب، الذين ترفض السلطات الكرواتية تقديم مأوى لهم.
(تنبيه): التاريخ الميلادي تقريبي نظراً لاشتماله على أكثر من عام هجري أحياناً