للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَيْسَ إِسْقَاطَ الْعِقَابِ، بَلْ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشُّورَى: ٣٠] أَيْ مَا يُعَجِّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصَائِبِ عِقَابِهِ إِمَّا عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ أَوْ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ الْمُعَجَّلَةِ فَبِذُنُوبِكُمْ وَلَا يُعَجِّلُ الْمِحْنَةَ وَالْعِقَابَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا، وكذا قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشُّورَى: ٣٢] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشُّورَى: ٣٤] أَيْ لَوْ شَاءَ إِهْلَاكَهُنَّ لَأَهْلَكَهُنَّ وَلَا يُهْلِكُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَالْجَوَابُ: الْعَفْوُ أَصْلُهُ مِنْ عَفَا أَثَرَهُ أَيْ أَزَالَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مِنَ الْعَفْوِ الْإِزَالَةَ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْخِيرُ، بَلِ الْإِزَالَةُ وَكَذَا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الشورى: ٢٣٧] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْخِيرَ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، بَلِ الْإِسْقَاطُ الْمُطْلَقُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَتَنَاوَلُ التَّأْخِيرَ أَنَّ الْغَرِيمَ إِذَا أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ عَفَا عَنْهُ وَلَوْ أَسْقَطَهُ يُقَالُ: إِنَّهُ عَفَا عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِالتَّأْخِيرِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُطِيعِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ أَوْ إِلَى الْعُصَاةِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ فِي حَقِّهِمْ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ حَقُّهُمْ أَوْ لِأَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْ حَقِّهِمْ. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُسَمَّى رَحْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ مِائَةُ دِينَارٍ فَأَخَذَهَا مِنْهُ قَهْرًا وَتَكْلِيفًا لَا يُقَالُ فِي الْمُعْطِي إِنَّهُ أَعْطَى الْآخِذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ رَحْمَةً. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ صَارَ بِمَا أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستغني عَنْ ذَلِكَ التَّفَضُّلِ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تُسَمَّى زِيَادَةً فِي الْإِنْعَامِ وَلَا تُسَمَّى الْبَتَّةَ رَحْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّلْطَانَ الْمُعَظَّمَ إِذَا كَانَ فِي خِدْمَتِهِ أَمِيرٌ لَهُ ثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَمْلَكَةٌ كَامِلَةٌ، ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ ضَمَّ إِلَى مَالِهِ مِنَ الْمُلْكِ مَمْلَكَةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّ السُّلْطَانَ رَحِمَهُ بَلْ يُقَالُ: زَادَ فِي الْإِنْعَامِ عليه فكذا/ هاهنا. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي:

وَهُوَ أَنَّ رَحْمَتَهُ إِنَّمَا تَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ الْعَذَابَ الزَّائِدَ عَلَى الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ لَا يُسَمَّى رَحْمَةً وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَافِرٍ وَظَالِمٍ رَحِيمًا عَلَيْنَا لِأَجْلِ أَنَّهُ مَا ظَلَمَنَا، فَبَقِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ رَحِيمًا لِأَنَّهُ تَرَكَ الْعِقَابَ الْمُسْتَحَقَّ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَلَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ عِقَابِهِمْ وَاجِبٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّهُ تَرَكَ عِقَابَ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ لِأَجْلِ أَنَّ الْخَلْقَ وَالتَّكْلِيفَ وَالرِّزْقَ كُلَّهَا تَفَضُّلٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَفِّفُ عَنْ عِقَابِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ رَحِيمًا فِي الدُّنْيَا فَأَيْنَ رَحْمَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ عندكم التخفيف عن العذاب غَيْرُ جَائِزٍ هَكَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الْوَعِيدِيَّةِ، إِذَا ثَبَتَ حُصُولُ التَّخْفِيفِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ ثَبَتَ جَوَازُ الْعَفْوِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِأَحَدِهِمَا قَالَ بِالْآخَرِ.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] ، فَنَقُولُ: «لِمَنْ يَشَاءُ» لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ وَلَا صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التوبة، وإنما قلنا: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَلَا عَلَى الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِوُجُوهٍ.

أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ تَفَضُّلًا لَا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ اسْتِحْقَاقًا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ