للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَشاءُ

أَيْ وَيَتَفَضَّلُ بِغُفْرَانِ مَا دُونَ ذَلِكَ الشِّرْكِ حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فُلَانٌ لَا يَتَفَضَّلُ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَيُعْطِي مَا دُونَهَا لِمَنِ اسْتَحَقَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُنْتَظِمًا، وَلَمَّا كَانَ غُفْرَانُ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُسْتَحَقًّا امْتَنَعَ كَوْنُهُمَا مُرَادَيْنِ بِالْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَالتَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ لَمْ يَبْقَ لِتَمْيِيزِ الشِّرْكِ مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ مَعْنًى لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَغْفِرُهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَذَلِكَ يَغْفِرُ الشِّرْكَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَغْفِرُهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يَبْقَى لِلْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ فَائِدَةٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ غَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَاعِلُهُ فِعْلَهُ يَفْعَلُهُ وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذين لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَالْمَغْفِرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مُعَلَّقَةٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَغْفِرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مَغْفِرَةَ التَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِأَسْرِهَا مُبَيَّنَةٌ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ غُفْرَانُ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ مَا سِوَى/ الشِّرْكِ وَذَلِكَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَقَبْلَ التَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ غُفْرَانَ كُلِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَحْتَمِلُ قِسْمَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَغْفِرَ كُلَّهَا لِكُلِّ أَحَدٍ وَأَنْ يَغْفِرَ كُلَّهَا لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: لِمَنْ يَشاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا لِلْكُلِّ بَلْ لِلْبَعْضِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ اللَّائِقُ بِأُصُولِنَا، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعُصَاةَ فِي الْآخِرَةِ بَيَانُهُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِسْقَاطُ الْعِقَابِ وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ أَعَمُّ مِنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ دَائِمًا أَوْ لَا دَائِمًا وَاللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْقَيْدَيْنِ، فَإِذَنْ لَفْظُ الْمَغْفِرَةِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْإِسْقَاطِ الدَّائِمِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ الشِّرْكِ عَنِ الدُّنْيَا وَيُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ مَا دُونَ الشِّرْكِ عَنِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ، لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَنَحْنُ لَا نَرَى مَزِيدًا لِلْكُفَّارِ فِي عِقَابِ الدُّنْيَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّا نَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ عِقَابَ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ عِقَابَ مَا دُونَ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَخْوِيفُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِتَعْجِيلِ الْعِقَابِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ لِتَجْوِيزِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يُعَجِّلَ عِقَابَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْغُفْرَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْقَاطِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَغْفِرَةِ التَّائِبِ وَمَغْفِرَةِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ؟ أما الوجوه الثلاثة الأول: فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ لَا يَقُولُونَ بِهَا وَهِيَ وُجُوبُ مَغْفِرَةِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَلَا نُسَلِّمُ أن قوله: ما دُونَ ذلِكَ يفيد العموم، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظِ «كُلُّ» وَ «بَعْضُ» عَلَى الْبَدَلِ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: وَيَغْفِرُ كُلَّ مَا دُونَ ذَلِكَ. وَيَغْفِرُ بَعْضَ مَا دُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: مَا دُونَ ذلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَلَكِنَّا نُخَصِّصُهُ بِصَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعِيدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْكَبَائِرِ مِثْلَ الْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، فَآيَاتُ الْوَعِيدِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْمَغْفِرَةَ عَلَى تَأْخِيرِ الْعِقَابِ وَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِنْ عِقَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: ٣٣]