فأما آحاد الرعية: فلا يجوز لهم ذلك؛ لأن ذلك من الأمور العظام التي تتعلق بمصلحة المسلمين، فلو جوزنا ذلك لآحاد الرعية.. لتعطل الجهاد.
فإذا أراد الإمام أن يعقد الهدنة مع جميع المشركين، أو مع أهل إقليم أو صقع عظيم.. نظرت: فإن كان مستظهرا عليهم، ولم ير مصلحة في عقد الهدنة.. لم يجز له عقدها، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهل الكتاب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: ٤١][التوبة: ٤١] ولقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}[التوبة: ٢٩] الآية [التوبة: ٢٩] . فأمر بالجهاد والقتال، والأمر يحمل على الوجوب. ولقوله تَعالَى:{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}[محمد: ٣٥][محمد: ٢٥] .
وإن رأى الإمام مع استظهاره المصلحة في الهدنة؛ بأن يرجو أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية، أو يعينوه على قتال غيرهم.. جاز له أن يعقد لهم الهدنة أربعة أشهر فما دونها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة: ١] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}[التوبة: ٢][التوبة: ١-٢] . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وكان ذلك في أقوى ما كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . ورُوِي:«أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة.. هرب منه صفوان بن أمية، فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سح في الأرض أربعة أشهر» وكان مستظهرا عليه وعلى جميع الكفار، وإنما كان يرجو إسلامه، فأسلم بعد ذلك.
ولا يجوز للإمام أن يعقد الهدنة مع استظهاره سنة فما زاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة: ٥][التوبة: ٥] . وهذا عام في جميع الأوقات، إلا ما خصه الدليل. ولأن السنة مدة تجب فيها الجزية، فلم يجز إقرارهم فيها بغير جزية. وهل يجوز عقد الهدنة فيما زاد على أربعة أشهر ودون السنة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الأمر بالقتال إلا ما خصه الدليل، ولم يرد الدليل إلا في أربعة أشهر.