قال الشيخ الإمام العالم، الحافظ البارع الأوحد، بقية السلف عز الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن عبد الكريم الجزري، المعروف بابن الأثير ﵁:
الحمد للَّه الّذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه، والحمد للَّه المنزه عن أن يكون له نظراء وأشباه، المقدس فلا تقرب الحوادث حماه، الّذي اختار الإسلام دينا، وارتضاه، فأرسل به محمدا ﷺ، واصطفاه، وجعل له أصحابا فاختار كلا منهم لصحبته واجتباه، وجعلهم كالنجوم بأيهم اقتدى الإنسان اهتدى إلى الحق واقتفاه، فصلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه صلاة توجب لهم رضاه، أحمده على نعمه كلها حمدا يقتضي الزيادة من نعمه، ويجزل لنا النصيب من قسمه.
أما بعد فلا علم أشرف من علم الشريعة فإنه يحصل به شرف الدنيا والآخرة، فمن تحلى به فقد فاز بالصفقة الرابحة، والمنزلة الرفيعة الفاخرة، ومن عرى منه فقد حظي بالكرة الخاسرة.
والأصل في هذا العلم كتاب اللَّه، ﷿، وسنة رسوله ﷺ، فأما الكتاب العزيز فهو متواتر مجمع عليه غير محتاج إلى ذكر أحوال ناقليه، وأما سنة رسول اللَّه ﷺ فهي التي تحتاج إلى شرح أحوال رواتها وأخبارهم.
وأول رواتها أصحاب رسول اللَّه ﷺ ولم يضبطوا ولا حفظوا في عصرهم كما فعل بمن بعدهم من علماء التابعين وغيرهم إلى زماننا هذا؛ لأنهم كانوا مقبلين على نصرة الدين وجهاد الكافرين إذ كان المهم الأعظم؛ فان الإسلام كان ضعيفا وأهله قليلون، فكان أحدهم يشغله جهاده ومجاهدة نفسه في عبادته عن النظر في معيشته والتفرغ لمهم، ولم يكن فيهم أيضا من يعرف الخط إلا النفر اليسير، ولو حفظوا ذلك الزمان لكانوا أضعاف من ذكره العلماء، ولهذا اختلف العلماء في كثير منهم؛ فمنهم من جعله بعض العلماء من الصحابة، ومنهم من لم يجعله فيهم، ومعرفتهم ومعرفة أمورهم وأحوالهم وأنسابهم وسيرتهم مهم في الدين.
ولا خفاء على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن من تبوأ الدار والإيمان من المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام والتابعين لهم بإحسان الذين شهدوا الرسول ﷺ وسمعوا كلامه وشاهدوا أحواله ونقلوا ذلك إلى من بعدهم من الرجال والنساء من الأحرار والعبيد والإماء أولى بالضبط والحفظ، وهم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون بتزكية اللَّه، ﷾ لهم وثنائه عليهم، ولأن السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى غير ذلك