للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غطاء الجهل، وتنجلى غشاوة العمى، ويستنبط به مذخور العلم، ويستدل به على سبيل الرشاد، وإنى وجدت الطريق إلى سبيل الخير الأدب، لأن ما سلف من عهد الله فى الماضين، وبقى فى الغابرين، تأديب لهم، وحجّة عليهم، ولم أر من درجات الخير درجة، ولا فى أعلى الشرف محلّة، إلا والأدب الصالح مفتاح بابها، والسّلّم إلى إحراز نبلها، قبل ذلك من قبله فكان أسعد به، وضيّعه من ضيّعه فكان أشقى به.

وقد ابتليتنى فى ذلك أحسن البلاء، ووليتنى فيه بأحمد الولاية، فحملت منى المؤنة وقبلتنى بالأدب على الصغيرة، ورضيتنى محرما (١) عتيقا، لا تدّخرنى نصحا، ولا تألونى رشدا، فعلمتنى ما لم أعلم، وبصّرتنى ما كنت أجهل، حتى وسمتنى بعد الإغفال، ونوّهت بى بعد خمول ذكرى، وشهرتنى بعد الأفول بسطة من طولك، ويد من فضلك، كأنك تشكر لذلك نعمة، أو تجزى (٢) منّة، فكنت فى نعمتك إلى يومى هذا، قد أعطيتنى منك النّصف، مودة كريم بنا وحفظا وإنعاما؛ وليس المنعم كمتحمّل النعم، إفضالا بعد إفضال، وربابة (٣) بحسن بلائك، وتنبيها على كريم فعالك، فعل ذى الشرف بذى الشرف، والوالد ذى النعمة، فأصفيتنى دون (٤) لطف بنى الأخ، ولطفت لى دون منزلة العموم، أخا برّا، لا بل أبا كريما، فخلفت لى من سواك ولست بمخلوف، وكفيتنى الهمّ بإذن الله، وسددت عنى ثلمة البعيد، ثم لم يأت علىّ يوم منذ أنزلنى الله منك بحيث أنزلنى، وأصفانى منك بما أصفانى، إلّا وأنا لك فيه أحمد من الماضى قبله، وكذلك أنت لى فى غدك إن شاء الله.

ثم رأيتك لا تزداد على الخبرة إلا طيبا، ولا على بعد الغاية إلا قربا، ولا على طول الأيام إلا حسنا، لم أتحلّل من عقدك عقدة، ولم أزدد من فضلك إلا وفرا، ولم


(١) من أحرم: إذا دخل فى الحرم، دخل فى حرمة لا تهتك.
(٢) فى الأصل «تجرى» وهو تحريف.
(٣) رب النعمة والصنيعة كنصر. ربابة: نماها وزادها وأتمها وأصلحها.
(٤) دون: نقيض فوق، وتأتى بمعنى فوق، وهو المراد هنا، والمعنى: وآثرتنى بلطف فوق لطف بنى الأخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>