وقد صدق حدس المغيرة، فإن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة- وكان يبغض يزيد وأهل بيته ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم- دعا يزيد وسأله عن تلك الأموال التى كتب بها إلى سليمان ابن عبد الملك فقال: كنت من سليمان بالمكان الذى رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به (والتسميع: إزالة الخمول بنشر الذكر) وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذنى بشىء سمعت به ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد فى أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين ولا يسعنى تركها، وأمر به فحبس. (١) وذلك أن موسى بن نصير قدم على الوليد وهو فى آخر شكايته التى توفى منها، وكان سليمان بن عبد الملك بعث إلى موسى من لقيه فى الطريق قبل قدومه على الوليد يأمره بالتثبط فى مسيره وألا يعجل، فإن الوليد بآخر رمقه، فلما أتى موسى بالكتاب من سليمان وقرأه قال: حييت والله ما غدرت، والله لا تربصت ولا تأخرت ولا تعجلت، ولكنى أسير بمسيرى فإن أوافه حيا لم أتخلف عنه. وإن عجلت منيته فأمره إلى الله، فرجع الرسول إلى سليمان فأعلمه، فقال: لئن ظفرت بموسى لأصلبنه أو لآتين على نفسه. وكان الوليد لما بلغه قدوم موسى واقترابه منه، وجه إليه كتابا يأمره بالعجلة فى مسيره، خوف أن تعجل به منيته قبل قدوم موسى عليه، وإرادة أن يحرم سليمان ما جاء به، وأقبل موسى حتى دخل على الوليد، وقدم إليه الطرائف التى اجتلبها معه، ولم يلبث الوليد أن مات وصارت الخلافة إلى سليمان، فبعث إلى موسى فشتمه وتوعده وأقامه فى الشمس فى يوم صائف شديد الحر وكان كبير السن بادنا، وكانت به نسمة (والنسمة محركة: الربو) فلما أصابه حر الشمس وأتعبه الوقوف هاجت به، فارتفع نفسه وعظم بهره (والبهر بالضم: انقطاع النفس من الإعياء) وتصبب عرقه، فما زال كذلك حتى سقط مغشيا عليه، فكلمه عمر بن عبد العزيز فيه، وضمه إليه يزيد بن المهلب، وقاضاه سليمان على مال يدفعه إليه وخلى سبيله.